منصة قلب إفريقيا الإخبارية

بين فضيلة ورذيلة

يحيى إبراهيم النيل

في ثمانينات القرن الماضي زرت اسرة ريفية فرنسية بمنزلها بمعية استاذي لإيف تورنير. كان لهذه الأسرة طفل في حوالي الرابعة أو الخامسة من عمره. لما رآنا (أو بالأحرى لما رآني!) اختبأ خلف منضدة الطعام. طلب منه أبواه الخروج لتحيتنا، فرد بكل براءة “ما عندي رغبة”.

وحكى لي صديق سوداني أنه قد طلب من صديق فرنسي أن يسلفه مبلغاً من المال، فرد عليه بأنه لا يسلف مالاً لأحد، لكن لأنه صديق حميم فسيقوم بتسليفه وطلب منه أن يأتيه نهاية اليوم. ذهب الصديق السوداني فوجد صديقه الفرنسي قد أعد وروقة مكتوب عليها: ” أنا الموقع أدناه، فلان الفلاني، أقر بأنني قد استلفت مبلغ كذا من السيد علان العلاني وأتعهد بسداده في تاريخ كذا”. ثم التاريخ والتوقيع. يقول السوداني: “شعرت بغبن وإهانة كبيرين وكدت اصفعه بالورقة، رغم علمي التام بأن ديننا قد أمرنا في آية محكمة بأن نكتب الدين ولا “نسأم أن نكتبه كبيراً أو صغيراً” (الآية 282 ن سورة البقرة)، ويُذكر أنها أطول آية في القرآن.

علينا اعتبار هذا الوضوح فضيلة كبرى، رغم عدم مقدرتنا على ممارسته. ذلك لأن مجاملاتنا، نحن السودانيين، وهي فضيلة كبرى كذلك، تفتح الباب لرذيلة مصاحبة، وهي النفاق. فكم تبسم أحدهم وضحك في وجه أخيه، ثم (أكل لحمه ميتاً) بمجرد خروجه. وكم عبس آخر ومط شفتيه تأففاً بمجرد رؤية اسم شخص ما على شاشة هاتفه، لكن عند استلام المكالمة تعلو الضحكات وتسري القفشات. ثم تنبش سيرة المتصل بمجرد وضع الهاتف جانباً. نسأل الله ألا نصل لدرجة من عناهم البارودي بقوله:

مَعَاشِـرُ سَـادُوا بِالنِّفَاقِ وَمَـا لَهُمْ

أُصُـولٌ أَظَلَّتْهَا  فـُرُوعٌ  بَوَاسِـقُ

فَأَعْلَمُهُمْ عِنْدَ الْخُصُـومَةِ جَاهِـلٌ

وَأَتْقَـاهُـمُ  عِنْدَ  الْعَفَـافَـةِ  فَاسِـقُ

طَلاقَةُ وَجْهٍ تَحْتَهَا الْغَيْظُ كَاشِـرٌ

وَنَغْـمَةُ  وُدٍّ  بَيْنَهَا الْغَـدْرُ نَاعِـقُ

وقد حذرنا ديننا من مصير ذي الوجهين، كما ورد عن أبي هريرة: “قال النبي صلى الله عليه وسلم تجد من شر الناس [او شرار الناس] يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه”.

وقيل “النّفاق أخ الشّرك”. وقيل “فساد العلماء من الغفلة، وفساد الأمراء من الظلم، وفساد الفقراء من النفاق” وذهب آخرون لأبعد من ذلك فقالوا: ” الذنب الوحيد الذي لا يمكن غفرانه هو النفاق، فتوبة المنافق هي في حد ذاتها نفاق آخر”! وقد (هبش) الإمام الشافعي فئة بعينها بقوله “أكثر الناس نفاقاً الأدباء والمجوس”!

وشكا أبو فراس الحمداني من الحساد والمنافقين فقال:

وَلَـم أَرَ مِـثـلي اليـَومَ أَكـثَـرَ حاسِـداً

كَأَنَّ قُـلـوبَ النـاسِ لـي قَـلـبُ واجِـدِ

أَلَـم يَـرَ هَـذا النـاسُ غَيرِيَ فـاضِـلاً

وَلَـم يَـظـفَـرِ الحـُسّــادُ قَبلي بِماجـِدِ؟

أَرى الغِلَّ مِن تَحتِ النِفاقِ وَأَجتَني

مِـنَ العَسَلِ الماذِيَّ  سُـمَّ  الأَسـاوِدِ

ومثله فعل البارودي:

لِأَيِّ خَلـِيـلٍ فِـي الـزَّمَــانِ أُرَافِــقُ

وَأَكـْثَـرُ مَـنْ لاقَـيْـتُ خِـبٌّ مُـنَافِـقُ

بَـلـَوْتُ بـَنِـي الدُّنْيَا فَلَـمْ أَرَ صَادِقَاً

فَأَيْنَ لَعَمْرِي الأَكْرَمُونَ الأَصَادِقُ

غير أن السودانيين، أنفسهم، ينسبون الحسد إلى أنفسهم، كلما غضب أحدهم من الآخر. ينسبون للرئيس الراجل جعفر نميري قوله إنه يحكم 20 مليون حاسد، وللدكتور عبد الله الطيب قوله إن خمساً من القبائل العربية السبع التي هاجرت إلى السودان كانت مشهورة بالحسد. ويسخو بعضنا فيجعلها 13 قبيلة من 16 هاجرت إلى السودان. والحسد، عنده، ليس حصراً على العوام. قيل إنه قال، رحمه الله، إنه لم يدرك حسد الأكاديميين إلا بعد تعيينه مديرا لجامعة الخرطوم! وفي شعره كثير امتعاض من الحساد، كقوله:

قد حز في نفسي أني ليس يشكرني

قومي  بلائي  وإبداعي  وإحسـاني

أمسى ينوه بي من ليس من وطني

وبات  يحسدني  أهلي  وجـيراني

وحيرني ما رأيته مراراً من (الجنس الآخر)، إذ تسير الواحدة إلى العزاء وهي تضحك وتمازح من تسير معها، وربما وصل طرف سوطها المتوفى. لكن بمجرد وصولها بيت العزاء، فإنها (تَـقْـلِـد) قريبات المرحوم وتبكي (ولا أقول تتباكى)، وتنزل الدموع من عينيها مدراراً! قلت “حيرني”، باعتبار ذلك السلوك طبيعياً ولا أُدخله في باب النفاق، ربما لهن جينات خاصة، لم تكتشف بعد، تجعل الدموع في متناول اليد!  

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *