منصة قلب إفريقيا الإخبارية

سأخون وطني

لربما يصدم هذا العنوان المبتسر الكثير من القراء الأعزاء إلا من سبق له الاطلاع على مؤلفات الأديب والشاعر السوري المعروف الراحل محمد الماغوط، الذي بث في كتابه الذي يحمل هذا العنوان أنفاسه الحارة وما يعتمل في دواخله من معاناة بسبب الوطن. وبعيداً عن محتوى الكتاب ورسالته إلى القارئ العربي وما يقصده الكاتب بهذه الجملة الصادمة، فلست في مقام الحكم على منتوج الأدباء، ولكن هذه العبارة، بسياقها المباشر، تمثل حال ثلة من أبناء الأمة العربية والإسلامية، من المحيط إلى الخليج، ومن النيل إلى الفرات، الذين ارتضوا أن يكونوا خناجر مسمومة في خاصرة أوطانهم، فكانوا كالهوام التي تحمل في بطونها سموم خيانة الأوطان!  

لا أجد صفة تتسم بالوضاعة مثل ما تجسده كلمة “خيانة”، هذ المفردة القميئة التي تعكس قمة السقوط الإنساني والانحدار الأخلاقي الذي يحمله في الدواخل بعض من ينتسبون إلى أوطانهم، والتي لو وهبت الحياة لحظة، لما ترددت أن تبصق على وجوههم ولجردتهم من انتمائهم إليها، فهم لا يستحقون ذلك الشرف.  

إن الخونة والعملاء والمرتزقة كائنات تمشي بيننا، وتأكل وتشرب مثلنا، ونراهم كثيراً في الأجهزة الإعلامية، بوجوه مختلفة، منهم السياسيون الذين يتبارون في صياغة الخطب الرنانة عن المدنية والديمقراطية وحكم الشعب والنزاهة والشفافية، ومنهم العسكريون الذين ينصبون أنفسهم حماة للشرعية الدستورية وصون وحدة البلاد واستقرارها وأمنها وسلامة أراضيها، ومنهم الأكاديميون المثقفون من النخب الذين يعتبرون أنفسهم من المصطفين الأخيار، ومنهم أبناء الوطن من الدياسبورا الذين يتباكون على الديار وهم غارقون في ملذات دول المهجر والجوار، وغيرهم كثيرون ممن تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.   

ليس من المستغرب أن تندلع حرب الجواسيس بين الدول، ولا سيما في ظل الصراعات القائمة والمتغيرات الجيوسياسية العديدة التي تشهدها الكثير من المناطق حول العالم، وإذا نظرنا إلى الصراع العربي-الإسرائيلي لوجدناه مليئاً بالكثير من الملفات المخابراتية المعقدة التي يلعب فيها المواطن العربي، بكل أسف، دور الخائن والجاسوس وهو في قمة النشوة، بينما ينظر إليه من جندوه بكل قرف واشمئزاز. هناك الكثير من القصص والحكايات التي تروى عن خونة وعملاء وجواسيس تم تجنيدهم لصالح بعض أجهزة المخابرات الأجنبية، ولا سيما الموساد الذي ينشط كثيراً في العمل داخل أراضي الدول التي تمثل أهمية استراتيجية بالنسبة لإسرائيل، والسودان هو إحدى تلك الدول، ولهذا نجحت إسرائيل في اصطياد العديد من ضعاف النفوس الذين باعوا الوطن بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.

في المقابل، هناك فئة من الخونة تبيع أوطانها نظير كسب شخصي أو منفعة ذاتية أو مصلحة حزبية ضيقة، وهي شريحة تعيش بيننا أيضاً وتوثق علاقتها مع الوجود الأجنبي في البلاد لتنزلق بعدها في مستنقع الخيانة، وهي تعلم ذلك ولكنها تغض الطرف عن ذلك بسبب المغريات التي أغرقتها ولا تستطيع عنها فكاكاً.

تنشط هذه الفئة أكثر أثناء الصراعات والأزمات الداخلية التي تمر بها الدولة، فتزداد وتيرة الاستقطاب، حتى من جانب الدول الصديقة والشقيقة، لتفوح بعدها الروائح النتنة للخونة ابتداءً من أعلى المستويات في الدولة نزولاً إلى البائع المتجول الذي يشفق عليه الناس من طول تواجده في الشارع تحت الشمس الحارقة، بحثاً عن لقمة العيش، ولم يدروا أنه يشارك في مخطط خيانة الوطن.

إن أبشع منظر يمكن أن يراه المرء على الإطلاق، هي صورة الخونة من أبناء الوطن وهم يصطفون، كمومساتٍ رخيصات في شوارع البغاء، لتبادل التحايا والتبريكات مع من اشتراهم من الوكلاء، طلباً في وده وطمعاً في رضاه! عندما تذهب إلى تاجر المواشي لتختار “بهيمة” للأضحية أو غيرها، فإنه يتحسس ذيلها ويفتح فمها، حتى لا يكون بها عيب وليقنعك بأنها الأفضل ثم يبيعها لك، ولكن من يشتري قطيع الخونة فله شأنٌ آخر، فهو يختار “الخصيان” منهم، وهو العارف بمهنته، لأنه يريدهم “بلا فاعلية”، في حالة “الفاعل” أو “المفعول به”، فيصيروا “عبيداً خصيان” مع سبق الإصرار والإذعان!

ليس هناك أكثر مهانة للمرء من أن يصافح قاتل أخيه، أو يبتسم في وجه سجانه، أو يسامر مغتصب زوجته، أو يأتمن سارق بيته، ولنابليون بونابرت مقولة شهيرة قالها للجاسوس النمساوي الذي ساعده في اجتياح النمسا عندما تقدم إليه ليصافحه بعد أن رمى إليه بصرة من المال: هذا المال لأمثالك، أما أنا فيدي لا تصافح من خانوا أوطانهم مثلك!

إن من يخون وطنه، فليتحسس أهل بيته، فعندما يخرج من داره خائناً، يدخل من نفس الباب من يسقيه سم الخيانة في عقر داره ولكن بطعم مختلف، فالجزاء من نفس العمل (دقة بدقة ولو زدت لزاد السقا)، أو ليس منكم “ديوثٌ” رشيد؟!!!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *