منصة قلب إفريقيا الإخبارية

جنوب السودان يتنفس نفطاً

المعز محمد الحسن

في السادس من مايو قامت قوات الأمن بجنوب السودان بمنع العاملين بشركة نايل بتروليوم، الشركة الحكومية المسؤولة عن النفط في جنوب السودان، من تنفيذ اعتصام كانوا يعتزمون تنظيمه على مدى خمسة أيام احتجاجاً على قرار إدارة الشركة القاضي بتخفيض الرواتب بنسبة 50%، بالإضافة لتجميد البدلات والتأمين الصحي والمنحة الغذائية. وذكر مجلس إدارة الشركة في بيان بهذا الخصوص بأن هذا القرار أملته الأزمة المالية الحادة التي تعاني منها الشركة وأنه كان ضرورياً لضمان استمرار نشاط الشركة وتفادي اللجوء لتخفيض العمالة.  والحقيقة أن جنوب السودان يمر بأزمة اقتصادية بالغة بسبب توقف صادر النفط عبر ميناء بشائر السوداني، عقب تعطل أنبوب التصدير وتوقف الإنتاج في معظم الحقول. ما يزيد من فداحة الأزمة هو الاعتماد الكبير لدولة جنوب السودان على واردات النفط التي تشكل 60% من الناتج القومي و90% من موارد الميزانية و95% من دخل الصادرات. وعلى الرغم من إعلان حكومة السودان، على لسان مالك عقار نائب رئيس مجلس السادة، في الرابع العشرين من أبريل، عن قرب الانتهاء من تأهيل الخط الناقل واستئناف ضخ البترول خلال شهرين، إلا أن الوضع الأمني المتردي نتيجة الحرب في السودان يجعل من الصعب الوثوق بهذه التصريحات مالم يتم تشغيل الخط بصورة فعلية. حتى وإن تحقق ذلك فإن استدامة تدفق النفط تبقى مهددة بسبب ذلك الوضع.

 مر جنوب السودان بأزمة مشابهة بين العامين 2012 و2013 عندما قرر إيقاف تصدير النفط نتيجة خلاف مع السودان حول رسوم العبور. استمرت الأزمة قرابة العام ليستأنف ضخ البترول في أبريل 2013. وقد لجأت الحكومة في ذلك الوقت إلى الاستدانة من الخارج لتعويض العجز المالي الناتج عن هذا التوقف ما أدى لحدوث تشوهات هيكلية في الاقتصاد نتيجة لتراكم الدين الخارجي الذي تبقى قسم كبير منه دون سداد إلى اليوم، ووصلت نسبته إلى قرابة الخمسين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بسبب تراكم الفوائد والمتأخرات. ورغم أن هذه النسبة تعتبر آمنة بصفة عامة، إلا أنها تضع جنوب السودان في مستوى خطر وقريب من حافة التصنيف كدولة عاجزة عن السداد وذلك لعدة اعتبارات متعلقة بالوضع العام المتردي للدولة والبنية الاقتصادية الفقيرة. ما يزيد الأمر سوءاً هو أن معظم هذه الديون مستحقة لمؤسسات تجارية ووفقاً لعقود باهظة التكلفة. حسب آخر إحصاءات البنك الدولي تبلغ نسبة خدمة الدين بمفردها حوالي 7,5% من الناتج القومي المحلي. وقد اضطرت حكومة جنوب السودان للاتفاق على إعادة هيكلة ديون بعض المؤسسات التي لجأت للقضاء ومنها بنك قطر الوطني الذي بلغ دينه على حكومة جنوب السودان ما يقارب المليار دولار.

 توقف تصدير النفط هذه المرة، وفي حالة استمراره، سوف تترتب عليه نتائج أكثر كارثية إذ أنه يأتي في وقت تمر فيه البلاد بظروف بالغة التعقيد وفي ظل تقلص كبير لهامش المناورة المتاح للحكومة لتخفيف آثار الصدمة.

أولا ً، يعاني جنوب السودان من وضع اقتصادي متردي حسب تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تشير إلى اختلالات في الاقتصاد الكلي ومعدلات تضخم عالية بالإضافة للتدهور المتسارع لقيمة العملة المحلية التي هوت إلى مستويات قياسية خلال الأشهر القليلة الماضية ليصل سعر صرف الدولار إلى 1600 جنيه مقابل 1067 في يناير الماضي.  يضاف إلى ذلك انخفاض حاد في إيرادات الخزانة العامة نتج عنه عجز وزارة المالية عن الإيفاء بأجور العاملين في الدولة على مدى أكثر من سبعة أشهر.

ثانياً، يمر جنوب السوان بوضع إنساني كارثي بسبب عدة عوامل منها الفيضانات وانتشار السلاح والعنف وانعدام المحاسبة ما جعل ثلاثة أرباع السكان البالغ عددهم حوالى ثلاثة عشر مليوناً في حاجة للعون الإنساني الطارئ حسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بتاريخ فبراير 2024. يشير التقرير أيضاً إلى وجود أكثر من 5 ملايين نازح جنوب سوداني داخل البلاد وخارجها، يضاف إليهم 500 ألف نازح من السودان من بينهم عائدين من مواطني جنوب السودان.

ثالثاً، يعاني جنوب السودان الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على العون الدولي من احجام متزايد من قبل المانحين بسبب سوء الإدارة وضعف واضطراب مؤسسات الدولة بالإضافة لانتشار الفساد بشكل وبائي وفي كل مستويات السلطة بما في ذلك القيادات العليا. وقد كشف تحقيق قامت به منظمة “ذا سينتري” (The Sentry) وهي منظمة طوعية أمريكية متخصصة في ملاحقة قضايا الفساد في إفريقيا، عن عمليات فساد على نطاق واسع صاحبت إدارة أموال القروض التي حصل عليها جنوب السودان خلال الفترة بين 2012 و 2015 والتي كان يفترض أن تكرس لتمويل استيراد السلع الأساسية. ذلك أدى لفقدان ثقة المانحين في الحكومة وإضعاف مقدرة وزارة المالية على الاقتراض من أجل تمويل العجز الناجم عن توقف تصدير البترول.

اقتصاد جنوب السودان قائم على الكفاف حيث أن أكثر من 80 بالمائة من السكان يعيشون في المناطق الريفية ويعتمدون في معيشتهم على الزراعة البدائية والرعي وصيد الأسماك. هذه البنية الاقتصادية التقليدية ستكون، وللمفارقة، عاملاً مساعداً على قوة تحمل المجتمع للصدمة الاقتصادية. إلا أن خطر انهيار الوضع الأمني يظل قائماً في وجود بنية أمنية هشة وانتشار واسع للسلاح بالإضافة للتوتر السياسي المتزايد مع اقتراب موعد الانتخابات العامة نهاية العام.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *