منصة قلب إفريقيا الإخبارية

الفرح الكبير باصطياد الزرازير

على قدر أهل العزم تأتي العزائـم

وتأتي عـلى قـدر الكـرام المكـارم

وتعظم في عين الصغير صغارهـا

وتصغر في عين العظيم العظائـم

                        (المتنبئ)

من آفات الساسة ومتعاطي السياسة عندنا في السودان، إلا من رحم ربي، وقليل ما هم، تضخيم الذات والاستخفاف بالخصم، من شاكلة (النار ولعت، بكفي بطفيها) و(أنحنا إن درنا نجمات السمــــاء ندليهــا) ومن شاكلة (نحن عدونا من نظراتنا دمو ينز)، و(نحنا الجن وقت لاقتا غير شارعو).. ولأنها نفخة كاذبة، فإنهم يفرحون بكل منجز، وإن صغر، ويقللون كل أنجاز للخصم، وإن كبر. وكذلك يقللون خطاياهم ويضخمون أخطاء خصومهم.. ويكفي أن ننظر ردود أفعالهم على ما يحدث الآن في الساحة السودانية من حرب وتبعاتها لنرى ألف مثال على ذلك. لكننا سنكتفي هنا بإيراد واقعتين تتعلقان بالشق الأول: الفرح بصغار الأمور، وتضخيمها. ونحن هنا لسنا بصدد مدح أو ذم الموقف، وإنما إيراد ردود الأفعال المضخمة له.

طار أناس كثر في الافاق فرحاً بـ”خبر” إقالة المذيعة تسابيح مبارك خاطر من قناة (سكاي نيوز العربية)، إن صح الخبر، مع أن استغناء أية مؤسسة عن أحد موظفيها أمر عادي. أما إن كان الخبر كاذباً (لأني لم أقف عليه من مصدر موثوق ولم أعد أشاهد هذه القناة لعدم وجودها في قائمة القنوات التي يزودني بها مقدم الخدمة)، فهذا هو الحشف وسوء الكيل بعينه. من سوء حظ تسابيح، أن خبر الإقالة جاء بُعيد أيام من مشاركتها في إذاعة التقرير المفبرك (الفضيحة) عن مشاركة داعش في معارك السودان، ودفاعها عنه بإستماتة. فأضاف شانئوها إلى فرحتهم باصطياد (الزرزورة) شماتة في وقوعها في الفخ. وورد في الوسائط أن الإقالة كانت بسبب التلفظ بكلمة جارحة، ظناً منها أنها لم تكن على الهواء مباشرة. أجزم أنني لم أسمع ما قالت، لكني أجزم كذلك أن مثل هذه المواقف كثيرة جداً في وسائل الإعلام حين يعبر المذيع عن الموقف الرسمي أمام الكاميرات والميكروفونات وعن مواقفه وآرائه الشخصية خلفها. وفي الشبكة العنكبوتية مئات الآلاف من (المواقف المحرجة) لمذيعين ظنوا أنهم لم يكونوا، أو لم يعودوا (على الهواء مباشرة). ومن خالط أهل المهنة يسمع الكثير والمثير والطريف. واكتفاءً بالطريف منها، أورد ما حكاه أحد الإخوة الذين عملوا في الإذاعة السودانية في سبعينات القرن الماضي من أن مذيعاً مشهوراً جداً كان (لأسباب تخصه) لا يقوى على قراءة نشرة الأخبار جالساً. ولأن النفوس كانت سمحة وعامرة بالمحبة، كان الفنيون يقرّبون له الميكروفون ليقرأ النشرة وهو مستلقٍ على الأرض! ونحن، المستمعون الكرام، كنا (فوق جهلنا) نتابع النشرة باهتمام.  

ورقص آخرون فرحا بصيد أكبر حجماً من (الزرزورة)… لنقل أرنباً. أعني تصريحات سناء حمد التي ذكرت فيها انها كُلّفت بالتحقيق مع أعضاء اللجنة الأمنية من أفراد تنظيم (الحركة الإسلامية) لمشاركتهم في الإطاحة بنظام البشير. وقام بعضم بـ(مط) التصريح كي يشمل الفريق أول البرهان، رغم أن سناء لم تذكره.  مع أن هذا الأمر لم يكن مستغرباً. بل إننا قد نستغرب إذا نما إلى علمنا أن التنظيم لم يحقق معهم. فقد قلنا في مقال سابق إن نظام البشير قد عبث بالمؤسسة العسكرية، كما عبث بغيرها من مؤسسات الدولة بغرض التمكين وأنه حصر المناصب القيادية العليا في الأجهزة الأمنية على أعضاء تنظيم الحركة الإسلامية والموالين لها ممن لا تُخشى بوائقهم. بل إن البشير نفسه قد أتى به التنظيم لقيادة الانقلاب الذي أطاح بحكومة السيد الصادق المهدي، رحمه الله، ووفر له الدعم الذي مكنه من البقاء فيه ثلاثة عقودُ. وكلنا سمعنا عبارة الدكتور حسن الترابي، رحمه الله: “إذهب إلى القصر رئيساً، وسأذهب أنا إلى كوبر حبيساً”. ومن المعلوم كذلك أن كل تنظيم في العالم يحاسب أعضاءه إذا أخفقوا في آداء ما كلفوا به من مهام. فما بالنا إذا ارتقي الإخفاق إلى درجة المشاركة مع المعارضين في الإطاحة بالنظام الذي جاء بهم إلى مناصبهم بغرض حمايته. هذا إذا علمنا أن الأمين العام للحركة الإسلامية، المرحوم الزبير احمد حسن، الذي كلف سناء بالتحقيق مع أعضاء اللجنة المنية، قد أدلى لها بإفادته حول ما حدث ودونتها.   

وعلى ذكر الأرانب وتضخيمها، تقفز إلى الذهن عبارة الإمام الصادق المهدي، رحمه الله، بعد توقيع اتفاق جيبوتي مع نظلم البشير (26 نوفمبر 1999): ” ذهبت لجيبوتي لأصطاد ارنباً ولكني اصطدت فيلاً”. وهذا من طريف تشبيهاته التي عرف بها، مثل “دايرننا نمشطها بقملها”، في وصف نوع الحوار الذي كان يريده نظام البشير مع معارضيه. و “عميانة كحلتها مجنونة. وقالت ليها حواجبك سوداء ومقرونة” في وصفه للجبهة الإسلامية. ومثل ” الشعبي ساقط وشايل قلمه يصحح”، عندما عاب عليه المؤتمر الشعبي علاقته بحكومة البشير، ومثل (أبو حريرة شم شطة في الجو وعطس)، تعليقاً على استقالة وزير ماليته، محمد يوسف أبو حريرة… وغيرها من رشيق عباراته.  

وأحياناً، إذا عدم السياسي ومتعاطي السياسة خبراً يضخمه أو يسفهه، إخترعه! وفي صفحات الانترنت ما يغني عن إيراد أمثلة هنا. فهم كما قال طُريح بن إسماعيل الثقفي:

إن يعلموا الخيرَ أخفوه، وإن علموا

شـرا أذاعـوا، وإن لم يعلموا كذبوا

وكما قال قعنب ابن أمّ صاحب الغطفاني:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً

مني، وما سمعوا من صالح دفنوا

صـم إذا سـمعوا خـيراً ذكـرت به

وإن ذكـرت بسـوء عـندهـم أذنـوا

وهناك فئة من الناس لا هم ساسة ولا من متعاطي السياسة، لكنهم يروجون لمثل هذه الوقائع، ويدافعون عنها أو يذمونها، دون أن (يطالوا بلح الشام ولا عنب اليمن). وهؤلاء حالهم كحال ابن الرومي الذي مدح أميراً فام يعطه شيئاً، فكتب إليه:

مـدحـتـكم  طـمـعـا فـيـمـا أؤمـلـه

فـلم أنل غير حمل الإثم والنصب

إن لـم تكـن صـلة منكم لـذي أدب

فـأُجْرة الخـط أو كـفـارة الـكـذب   

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *