منصة قلب إفريقيا الإخبارية

حكاية (النُص التاني) للفاتح زبد البحر

بقلم يحيى إبراهيم النيل

هي حكاية قصيرة بعدد كلماتها (ضمتها سبع صفحات فقط) خطها يراع الصديق المبدع الفاتح زبد البحر، لكنها كبيرة في مراميها. تحكي عن شاب من دارفور هيأ نفسه للهجرة إلى إسرائيل لتحقيق حلمه باللحاق بصديقه (الصادق) في تل أبيب “للهروب من هجمات قاتلة مستمرة في منطقتهم”. وصل أم درمان في طريق هجرته إبان المظاهرات ضد نظام البشير. هناك، “أدرك شيئاً عظيماً يحدث، واتسع قلبه لحلم كبير في وطن لم يعرفه هكذا من قبل. كما أدرك في قرارة نفسه سر الثورة وأن السكوت والمنافي لن يبنيا وطناً”. فقرر البقاء مع الثوار “من أجل كرامة الجميع، من أجل السلام والعدالة في الأرض”. وأرسل لـ(لصادق) في تل أبيب رسالة جاء فيها ” وجدت ما أبحث عنه… وجدت وطني المفقود. وعشت فصل التحرر من التبعية والطغيان. وكلي ثقة بأن المستقبل نصنعه نحن بصمودنا”.

نحن هنا أمام واقع محبط دفع آلاف الشباب للهجرة، ليفقد الوطن سواعد فتية أحوج ما يكون إليها لبناء مستقبله. وقد أجاد الكاتب وصف أجواء البؤس والإحباط حين لن يتوقع القارئ أن أحداً، مهما بلغت درجة وطنيته وحبه لبلده من الممكن أن يبقى فيه، ما وجد مهرباً.. وإن لم يجد، رمى نفسه في البحر يصارع الأمواج والحيتان وجشع مهربي البشر.. لكن بطل قصتنا قد فعلها. فكان قراره بالبقاء في وطنه للمساهمة في بنائه، تاج القصة ومسك ختامها.. (فالتحلية دائماً في الاخر!)..

لو حاولت اقتباس كل الصور التي رسمها الكاتب لكان عليّ إيراد النص بأكمله. لكن سأكتفي ببضعة شذرات منه:

لقد عاش بطلنا في “معسكر كئيب، وهو الشاهد الصادق على بؤس حالهم وهوانهم”. وكان “أين ما اتجه ببصره، يرى الوجوه الشاحبة وقد ازدادت شحوباً وتعباً”.

حتى الطبيعة شاركت في تعميق بؤس حاله، إذ أن “الرمال المرسلة القاسية تطرد كل شيء أمامها، حتى الأحلام والأشواق”. ولنا أن نقف عند بناء (المرسَلة) للمجهول لنبحث عمن أرسلها؟  

وبطلنا لم يفقد نعمة الإطعام من جوع وحدها، وإنما نعمة الأمن من الخوف كذلك، فقد “كانت المركبات العسكرية في كل مكان، يراها في الشوارع والزوايا وفي كوابيسه، في مداخل المدينة ومخارجها في جوف الليالي. مصابيحها كنجوم في صحراء ممتدة تخبئ عنه الكثير أو كـ(أبو لمبة)، شيطان الصحاري الذي يضلل العابرين”. وكان يشاركه ظهر اللوري الذي حمله إلى أم درمان “شباب دفعهم الحال البائس والرعب الذي شوه حياتهم وسلبهم الأمان، وحقهم في العيش كغيرهم من الأطفال”.

ومع ذلك البؤس الحاضر، أغلقت أمامه كل كوة أمل في تغيير حياته إلى الأحسن واسترداد كرامته المهدورة مستقبلاً. فقد أمضى في المعسكر “أعواماً دون بارقة أمل تعيدهم إلى ديارهم وتمسح أحزانهم”. و”كانت إذاعة دبنقا تخبر الجميع كل يوم بأن هناك من قُتل في زراعته، ومن سُرقت بهائمه وقُتل في مرعاه، وعن فتيات صغار وأخريات كبار اغتصبن في الوادي القريب وهن يحتطبن. ومن فُقد ولم يُعثر له على أثر… لم تقل الإذاعة خبراً جميلاً يتمناه، ولو مرة، بأنهم سيعودون الى قراهم وأن الكابوس قد انتهى”. وعندما وضع رجله في أولي درجات سلم الخلاص: السفر إلى أم درمان مع أصحابه في طريق الهجرة، “كلما قرب الفرج ليعم السلام والمحبة، بعدت المسافة، فصاروا كظلال أعواد يابسة في صحراء قاحلة، حلمهم أن يعودوا لقرى ما عادت قائمة. فقد صارت رمادا وحطاما، جيفا وعظاما”. والصادق، ابن المعسكر الذي نحج في الوصول إلى تل أبيب “لن يعود إلى السودان إلا إذا حصل قدر الله”.

وكان الموت كذلك حاضراً في الحكاية، لـ”يكمل الناقصة”. فبعد وصول بطلنا أم درمان، في طريقه إلى جنته الموعودة، ” اشتغل حمالاً وغسالاً وعامل بناء، وفي المطاعم وفي غسيل العربات، ليشتري تلفونه الخاص.. في ذلك اليوم العسر، اتصل ب(يحيي) في المعسكر، وعلم ان أمه لم تحتمل فراقه… ولم يحتمل الخبر فانفجر باكياً بحرقة”… كما ان أترابه الذين ذهبوا خارج الحدود بحثاً عن هذه الجنة “لم يعد منهم أحد ليروي قصته … فالغياب حضور في قصص الملاحم والبطولات”.

ولم ينسَ الكاتب أن يعمق جراحنا بتذكيرنا بأن كل هذا البوس موجود في وطن يئن من ثقل الخيرات التي حباه الله بها ولم يحسن أبناؤه إدارتها. فعندما قرر بطلنا الهجرة، “بدأ يعد نفسه لمغادرة المعسكر القاحل في أرض حباها الله بكل الخيرات والرزق الوفير”. وليس صدفة أن يورد الكاتب أن اللوري الذي حمله إلى أم درمان “كان محملاَ بالتمباك”.. وليس بخيرات جبل مرة أو منقة أبو جبيهة وغيرها من خيرات غربنا الحبيب.

أثار الكاتب أيضاً قضية الهوية بطريقة غير مباشرة. فهو لم يذكر اثنية بطل القصة، إن كان من (زرقة) دارفور أم من (عربها)، كما كان يتم تصوير الحرب في ذلك الإقليم على أنها صراع بين هاتين الاثنيتين. فقد كان ” أستاذ العربي كثيرا ما يجلده. وكان هو يحس بالكلمات ويخطئ في نطقها. وكان يصعب عليه التعبير عن المعاني التي تقرب له الحياة ويحبها”.

قد حمل غلاف الحكاية الذي صممه الأخ الفاتح نفسه (وهو تشكيلي كذلك) صوراً لطفل وشباب ثائر وراس تمثال الملك تهارقا، في إشارة ذكية لربط أجيال اليوم والغد بجذورهم..

***

جميل أن نقرأ مثل هذه الأعمال التي تحض على السعي لتغيير الواقع المر، لا الهروب منه. والأجمل أن تأتي هذه الحكاية ضمن مشروع مبادرة (مؤسسة بادر لثقافة الطفل)، التي تهدف، ضمن ما تهدف إليه “لترقية الوعي بقضايا الوطن على اختلافها، بدأً بصياغة وجدان الأطفال وتحسين نظرتهم الكلية للوطن والحياة، خاصة مع توفر الذخيرة المعرفية والتراث الجم العريض والصور الإبداعية المختلفة في المناطق الطرفية المنتجة للفنون والملاحم القصصية في السرد والحكاوى وأدب شعبي راسخ يمكن تقديمه حال رصده وجرده وإعادة إنتاجه بما يشكل حصانة لأطفالنا، ليعمق اعتزازهم بهويتهم، وإغناء المخيلة بصور إنسانية وبيئية واجتماعية تأخذ مكانها في الحاضر والمستقبل وطرائق التفكير.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *