منصة قلب إفريقيا الإخبارية

النُّص التاني

الفاتح زبد البحر

كانت مصر قبلته، فإسرائيل، فهي الطريق التي مر بها من نجا من هجمات قاتلة مستمرة في منطقتهم. حلمه أن يلحق بهم ويلتقي (الصادق) في تل أبيب، الذي طالما سمع بحكاياته ورسائله الصوتية للأهل بالمعسكر الكبير الذي يضم آلاف النازحين من الأطفال والشباب والنساء وكبار السن. كان (الصادق) يحرضهم على الثورة وألا يبقوا في المعسكرات بلا حراك أو تنظيم… وهكذا أصبح يعد نفسه لمغادرة المعسكر القاحل في أرض حباها الله بكل الخيرات والرزق الوفير.

أمضى ليلته الأخيرة في المعسكر مع بعض أصحابه المقربين الذين يعرفون وجهته وقد وفروا له المعينات الضرورية لرحلته الأخيرة. وقد كانت كلماتهم له قوية ومشجعة.

في الصباح الباكر، استجمع شتات أفكاره وألقى النظرة الأخيرة على المعسكر الكئيب، الشاهد الصادق، على بؤس حالهم وهوانهم، ودافعه للتحرر منه ومن كل ما يمت إليه بصلة، بعد أن قضى فيه أعواماً دون بارقة أمل تعيدهم الى ديارهم وتمسح أحزانهم.

أين ما اتجه ببصره يرى الوجوه الشاحبة وقد ازدادت شحوباً وتعباً، والرمال المرسلة القاسية تطرد كل شيء أمامها حتى الأحلام والأشواق، وتعبث بالعقول وخيام البروش البائسة. سيفارقها بلا رجعة. الآن يودع كل شيء بتصميم وعزم بألا يعود ال هنا ثانية، إلا وقد تغير الحال والناس.

فقد كبر قبل أوانه كما قالت أمه وهي تستمع الى حجته قال لها: الحياة هنا غير منتجة وغير عادلة وسنبقى هنا الى أن نموت، إن لم نتحرك. أنظري الى هذه الرمال. دفنت حياتنا وكل شيء جميل عشناه وتمنيناه… ضمته إليها بقوة، وودعته وانسحبت الى الداخل تتمتم ببعض عبارات وأدعية، ووجهها الشاحب قد قال كل شيء.

كانت المركبات العسكرية في كل مكان. يراها في الشوارع والزوايا، في كوابيسه، في مداخل المدينة ومخارجها، وفي جوف الليالي. مصابيحها كنجوم في صحراء ممتدة تخبئ عنه الكثير أو كأبـ(و لمبة)، شيطان الصحاري الذي يضلل العابرين، هي غالب ذكرياته.

وهو مستلق على ظهر لوري يئن من ثقل جوالات التمباك، يشاركه الرحلة شباب دفعهم الحال البائس والرعب الذي شوه حياتهم وسلبهم الأمان، وحقهم في العيش كغيرهم من الأطفال، كلما قرب الفرج ليعم السلام والمحبة، بعدت المسافة، فصاروا كظلال أعواد يابسة في صحراء قاحلة. حلمهم أن يعودوا لقرى ما عادت قائمة. فقد صارت رماداً وحطاماً، جيفاً وعظاماً. لكنها حية في الحكاوي. متقدة في الذاكرة… وعيد ولهيب، وصمت رهيب.

واللوري يمضي بقوة يصارع الوحل في الطريق الطويل والأحلام. وأم درمان تقترب.

كانت إذاعة دبنقا تخبر الجميع كل يوم بأن هناك من قُتل في زراعته، ومن سُرقت بهائمه وقُتل في مرعاه، وعن فتيات صغار وأخريات كبار اغتصبن في الوادي القريب وهن يحتطبن … ومن فُقد ولم يُعثر له على أثر… لم تقل الإذاعة خبراً جميلاً يتمناه، ولو مرة، بأنهم سيعودون الى قراهم وأن الكابوس قد انتهى..

كان ينتظر أن يسمع بأن المعسكر لن يبقى الى الأبد وأن الطريق إلى قراهم قد أصبح سالكاً، وكذلك المدارس والبيوت، وأن الضحايا قد عوضوهم، وأن البذور في المخازن والمطاحن. والعدالة قد تحققت.

الناطق باسم المعسكر كثيرا ما كان يأخذ شباباً ويدفع بهم بعد حين الى خارجه. فمنهم من ذهب الى الجبل، جبل مرة المقدس، قبلة النضال. ومنهم من ذهب أبعد من ذلك، خارج الحدود. ولم يعد منهم أحد ليروي قصته… فالغياب حضور في قصص الملاحم والبطولات.

قال لصديقه في الرحلة مبررا هجرته: بعث (الصادق) الى زعيم المعسكر أشياء قيمة، من بينها تلفون حديث، كان نافذة الى الخارج، حيث الأمل، والهواء الطيب والناس محترمون، يأكلون ويعملون ويفرحون ويتعلمون …

وكنت أنا استمع الى ما يقولونه ويؤمنون به. أبحث عن دياري، عن وطني وأهلي في كل شيء حولي. ولم أجد إلا وجه أمي الصامت، والصامد. بحثت ولم أجد كتابي الذي أحبه، الأناشيد والتاريخ وأستاذ العربي الذي كثيرا ما كان يجلدني. كنت أحس بالكلمات وأخطئ في نطقها. أحب المعاني التي تقرب إلى الحياة ويصعب على التعبير عنها. ولا يفهم بأنني أجاهد للتعلم وأسعى للمعرفة والتفوق. آه من الرمال الممتدة. حينما تذروها الرياح وتلسع وجهي، أدرك بأني قد أدفن حياً إن بقيت هناك مستسلماً… ورفيقه في السفر لا يقول شيئاً. فهو مثله يبحث عن النجاة والنجاح في أرض الله الواسعة.

كانت الهبوب تهب في وجهي، تحفزني للنهوض والمغادرة. فتوجهت ال أستاذ (يحيى) في المعسكر، بعد أن رأيته منهمكاً في قراءة رسالة في الهاتف: (الصادق) ما جاي؟

سكت برهة، ثم التفت الي، كأنه يراني لأول مرة، ثم قال مبتسماً وبقوة: لا، ما ممكن يجي السودان إلا كان يحصل قدر الله. لكن يمكن ان تلحق به هناك في تل ابيب، في إسرائيل. وسألني: عايز تحصله؟

انتظر قدر الله أم أشد الرحال؟

والان أنا متجه الى أم درمان. ومنها سأجد طريقي الى الشمال البعيد..

مدينة واسعة، فسيحة، مكتظة. وجوهُ لم يرها من قبل. فيها كل الألوان: لون للشقاء والعدوان وآخر للشفاء والنسيان. وظنّ أنه وجه الحياة الأوحد هنا في أم درمان. عليه البحث بسرعة، عن فرصة نجاة وأمل، ليمضي في طريق اختاره هو هذه المرة، طريق لاتجاه واحد، لا يقود الى المعسكر أبداً. في هذا الصباح، كانت الحوائط ملأ بالشعارات، والشوارع سوداء من حريق اللساتك، والحجارة في كل مكان، والحرارة تحسها في الأجساد وفي الطرقات والأمكنة وأنفاس الشباب تتعالى، ثم يتجمعون هنا وهناك وصفارات يتبعها هتاف يشق السماء.

بعد أيام في ام درمان المشتعلة، لم يرد مضيفهم أن يخبرهم بشيء، فقد عاد مهموماً متعباً. وبالكاد تحدث معهم ثم غط في نوم عميق… وتساءلا: هل لا يريدنا ان نبقى معه في هذا المكان الضيق؟ فقد كان يقيم ويعمل في هذا الدكان غسّالاً في الحي، يعرك همومه باستمرار وأسى، مع هدوم الناس … اختلى صاحبنا برفيقه وقال له: إنه لا يريدنا هنا. سأبحث عن عمل ومأوى في الصباح. هل ستأتي معي؟

ولكنه قال: مضيفنا قد أُلقي القبض على ولده الطالب الجامعي في الجزيرة ومعه آخرون في الدروشاب. وقالوا إنهم عملاء لإسرائيل. وقالوا إنهم وجدوا سلاحا عندهم. ثم القى بالجريدة أمامه. ولم يجد فرصة لمقابلتهم في السجن. وقد سمع اليوم من العساكر بأنهم سيعدمون…

يقول صاحبنا ما استطعت قراءة الجريدة، كما لم أستطع استيعاب الأمر… فقد تعسّم لساني، وتلعثمتُ، وخانتني الحروف. حتى هنا يا ربي.. أين نلجأ؟

كانت خطته أن يحصل على تلفون حديث، فاشتغل بجدٍ وهمة، حمالاً وغسالاً وعامل بناء، وفي المطاعم.  كان المطعم بيته ومقر عمله، ولكنه بعد فترة عاد الى غسيل العربات، فقد قال إن دخلها أكبر. واشترى تلفونه الخاص في ذلك اليوم العسر.. واتصل بـ(يحيى) في المعسكر، وعلم منه ان أمه لم تحتمل فراقه… ولم يحتمل الخبر فانفجر باكياً بحرقة.

خرجت المظاهرات في الشوارع وامتلأت. وعربات التاتشر البيضاء والزرقاء والخضراء محتشدة ومحشوة بالسياط والبنادق. والشوارع تهتف والبمبان والدخان والرصاص والأمل… “هذا هو الطريق”، صرخ بأعلى صوته وهتف مع الجموع. خلع قميصه، كأنه أراد أن ينسلخ من ماض كبل أحلامه بقيد الخنوع والهوان… لا أحد يواسيه ويعرف بمصيبته، فقد صار وحيداً الآن… وحيداً… وحيداً.

خرج مع الجموع يهتف ويردد شعارات الثورة ويقذف بالحجارة. ومن شارع الى آخر يتقدمون، والمدن الكبيرة تردد تسقط، تسقط، تسقط بس.

لاحقتهم قوة ألقت القبض عليه مع آخرين، وهم في البوكس يتلقون الركل والضرب بالخراطيش وكعاب البنادق وسط الشتائم والألفاظ المهينة، وهم صامتون وصامدون. أدركوا أن القادم أسوأ، فالجلاد مجرم لا يرحم. وهو يسترجع الآن ما قام به هؤلاء من جرائم في دارفور، بلد القرآن والخيرات.

ثم رويدا رويداً، بدأ الهتاف يعلو كسحب راعدة تنذر بالمطر والشرر، والبوكس يسرع بأقصى سرعته هارباً من مواجهة الجموع الهادرة، والهتاف يخنق الشارع والحناجر. وما هي إلا لحظات وحوصر البوكس ففر من فيه من كتائب الظل الملثمين، تاركين خلفهم المعتقلين والعتاد. وأحاط الثوار بالبوكس كحلقة من نار

يهتفون:

دم الشهيد ما راح

لابسنوا نحن وشاح

دم الشهيد ما راح

من البوكس التقطهم الثوار رفعوهم ومضوا يهتفون بعزة وفخر: يا عسكري يا مغرور كل البلد دارفور… يا عسكري يا مغرور كل البلد دارفور

ورُفع الآن من القاع، قاع البوكس المهين، الى الأعناق وصار أيقونة مع آخرين وعبروا الشارع كنهر من هتاف: تسقط بس…

في هذه اللحظة أدرك ان شيئاً عظيماً يحدث، والقلب قد اتسع لحلم كبير في وطن لم يعرفه هكذا من قبل، ساح في المفاصل والأزمنة. وهكذا مضى مع الشباب في غمرة النضال، وقد عرف وتعلم الكثير، في أيام معدودات، ما لم يتعلمه في كل عمره.

هل مازال الحلم باقياً للحاق بـ(الصادق) وزمرة من أبناء دارفور بالخارج، أم ان البلد استهوته، وقد أدرك الان أن الكل كان فيها مرتهن ومهان؟ فالجموع والحشود كانت من كل حدب وصوب من كل لون ولهجة يهتفون: حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب.

لم يكن شعب جبال النوبة او دارفور او النيل الأزرق والشرق. كان الشعب شعب السودان كله. البيوت تفتح أبوابها، والأطفال الصغار كزهرات في خميل يحملون الأعلام ويتفاعلون، يرددون الأهازيج وشعارات الثورة والملاحم ويقدمون المياه والعصائر والسند…

ومع الأيام يسقط شهيد، وآخر، وتزداد حدة المواجهة…  تقتحم العصابات البيوت والمشافي، بلا أخلاق ولا دين ولا رحمة. تعتقل وتضرب. تدهس بالعربات وتقتل بالقناصة. والمدارس تبكي تلاميذها وأساتذتها…

وقرر أن يبقى مع الثوار من أجل كرامة الجميع من أجل السلام والعدالة في وطن لم يبخل بعطاياه والموارد. اقتحم مع السيل الجارف من بنات وشباب السودان ورجاله ونسائه محيط القيادة. لم يرهبهم الرصاص ولا الوعيد والتهديد، فالحصة وطن … الصوت واحد والقبلة والهدف والنداء.

حينما التقت الجموع الهادرة من كل فج في مشهد عظيم يبكون ويكبرون ويحصنون بعضهم:

الطلقة ما بتقتل، بقتل سكات الزول

والشرفاء من قوات الشعب العظيم لم يتأخروا تحية ووفاء واصطفافاً وعلا صوت الفداء

اليوم سقط النظام ليبق الوطن… اليوم سقط النظام ليبق الوطن

حرية سلام وعدالة… والثورة خيار الشعب.

كان في الأعلى، في مئذنة مسجد الجامعة، حينما أخرج هاتفه والتقط عددا من الصور ثم فتح الفيس بوك وأرسلها لـ(لصادق) في تل أبيب مع تعليق قصير: “وجدت ما أبحث عنه، وجدت وطني المفقود. وعشت فصل التحرر من التبعية والطغيان، وكلي ثقة بأن المستقبل نصنعه نحن بصمودنا وجسارتنا..

ثم نظر الى الجموع تحته كأنها كتلٌ من أماني وموجٌ صاخبٌ في بحر من فوقه رايات وبيارق ودعاء.

وأدرك في قرارة نفسه سر الثورة وأن السكوت والمنافي لن يبنيا وطناً وأمة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *