منصة قلب إفريقيا الإخبارية

داك هلال تاني

تقول الطرفة إن رجلاً (مسكين راي) في قرية ما كان الوحيد الذي رأي هلال العيد في إحدي السنوات. وعندما هلل الناس له وجرى اسمه على كل لسان، نظر إلى السماء وصاح: “داك هلال تاني”!

ابتليت، كغيري ممن يتابعون ما يجري في بلادنا، بالاطلاع على ما يكتب ويقال فيما جري ويجري، غثه وسمينه، مكرهاً في كثير من الأحيان. وبما أن الحديث عن (الابتلاء)، سنقصر كلمتنا هذه فيما يصيب بأمراض القلب، أو يزيدها لمن أصيب بها مثلي، متعكم الله بالصحة والعافية.

بداية، أقر بحق كل فرد في أن يختار الضفة التي تناسبه وأن يتبنى الموقف الذي يريد، قناعة او طمعاُ، وأن يتحمل مسئولية ما اختاره. وأفهم كذلك أن يدافع كل شخص عن موقفه أو ان يحاول تبريره، قناعة أو حفظاً لماء الوجه. 

لكني لا أفهم الايغال في الكذب ونفي ما هو ماثل للعيان، من وقائع وأحداث يراها الجميع، ومحاولة إنكار ضوء الشمس بلا رمد. وكان بإمكانه مثلاً أن يقدم قراءة مختلفة للحدث، أو يحاول تبريره أو تقليل أهميته، مما ينقل محتوى ما يقول من خانة (الوقائع) غير القابلة للنكران والنفي، إلى خانة (الرأي) الذي يقبل الخطأ والصواب.

وهذا لعمري دليل غباء وعدم حصافة، أياً كان من يوجه له هذا الخطاب الكذوب. فإن كان موجهاً للخارج، فالخارج أعلم من المتحدث بما جرى. وربما يكون هو من خطط له وأجراه واستشرف نتائجه. وإن كان موجهاً للداخل، ففي الداخل فئات ثلاث:

– محايدون ليسوا من أنصار المتحدث ولا من غرمائه. وهؤلاء لهم مصادرهم ووسائلهم لغربلة ما يسمعون ويقرأون

– أنصار لا يحتاجون للكذب عليهم لأن عين رضاهم لا ترى غير الصورة المشرقة الذي رسمها هذا الكذوب، عملاً بقاعدة:

هي تسوي الغلط وأن أسوي “كتر خيرها”

– معارضون: يرون الجانب الصحيح من الصورة التي يحاول الكذوب طمسها وهم سعيدون بها ولا يمكن تغطية بهجتهم بغلالة أكاذيب.  

وكمثال للحصافة وعدم اللجوء للأكاذيب التي تمس مصداقية الصحفي، أذكر أن أستاذ الاعلام في الجامعة الفرنسية التي كنا نمضي بها عاماً دراسياً في ثمانينات القرن الماضي قد قسمنا إلى ثلاث مجموعات (وكنا عشرة طلاب). وطلب من مجموعتين أن تشتري كل واحدة منهما صحيفة يومية وأن تختار موضوعا تناولته الصحيفة في أكثر من عدد. وطلب من مجموعتنا أن تشتري ثلاث مجلات صدرت في نفس الأسبوع وأن نختار موضوعا واحدا تحدثت عن ثلاثتها، ثم نقارن بين طريقة تناولها للحدث. أذكر أننا تناولنا زيارة كلود شيسون (وزير خارجية أول حكومة اشتراكية في فرنسا برئاسة فرانسوا ميتران) لموسكو، والتي تكن نتائجها في علو آمال الزائر، خاصة لقاؤه بيوري أندروبوف، الذي رأس الـ (KGB) قبل أن يتولى قيادة الاتحاد السوفييتي وقتها، بما يأمله.

تناولت مجلة مستقلة الزيارة بحيادية واضحة مع ذكر ما حققته وما أخفقت في تحقيقه. وركزت المجلة اليمينية على عدم حصول الوزير الفرنسي على ما كان يأمله، بالتركيز على تصريحات اندروبوف التي قال فيها للمسئول الفرنسي ما معناه إن اشتراكيتهم (أي كلام) وأن فرنسا، رغم انسحابها من حلف الناتو (بعد قرار الرئيس شارل ديغول في 1966 خفض عضوية فرنسا في حلف شمال الأطلسي وسحب فرنسا من هيكل القيادة العسكرية للحلف لمتابعة خيارات دفاعية أكثر استقلالية) ستضع بلا شك ترسانتها النووية تحت تصرف الغرب عند اندلاع اول مواجهة مع الشرق. أما الصحيفة الاشتراكية، فقد تفادت ما قيل خلال لقاء الرجلين، وصرفت نظر القارئ برسم صورة بارعة عن (أجواء اللقاء): وصف دقيق لمكتب اندروبوف، وصورة لينين المعلقة، وطريقة المسئول السوفييتي في الحديث، بالتركيز على استخدامه للغة الجسد، ونوع السجاد الفاخر الذي يغطي أرضية المكتب… إلخ، مما يجعل القارئ (ثالثهما) دون أن يخرج بأي (عقاد نافع) من هذا اللقاء. وكلتا المجلتين الأخيرتين لم تكذب، لكنها اختارت، بصدق، جزءاً يناسبها مما جرى بين الرجلين.  

ومن نعم الله على الكذبة، ونقمته علينا، ظهور ما يسمى بالذكاء الصناعي الذي جعله هؤلاء مشجباً لتعليق أكاذيبهم عليه وتميمة تقيهم تكذيب المكذبين.  

ومما ابتلينا به أيضاً، خاصة من المتحدثين، الثرثرة بلا طائل. تسمع لقاء مسجلاً أو مصوراً مدته ساعة وتخرج منه، بمعلومة جديدة يتيمة، إن خرجت بشيء. ولا تستطيع أن (تمسحه) ببصرك، كما تفعل فيما هو منشور، لتظفر بما هو مفيد في طرفة عين. فكل إجابة على (هل) تصبح معلقة تحتاج تضافر جهود الزوزني والتبريزي ومن لحق بهما.

وثالثة الأثافي تكذيب المتحدثِ نفسَه، في نفس اللقاء، إذا واجه مذيعاً لماحاً متمرساً و(عكليتاً). فينسى صاحبنا القاعدة الذهبية للكذبة: إذا اردت أن تكون كذاباً ماهراً، يجب، على الأقل، ألا تنسى أكاذيبك.   

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *