منصة قلب إفريقيا الإخبارية

قراءة في رواية “يد القمر حين يحلو لهم الخوف” للكاتب الروائي محمد رشيد الشمسي.

كتب :ياسر عبدالله ادم

بينما كنت أغوص في كتابات نغوغي ومقالاته المتنوعة، وأتصفح لقاءاته الشائقة والغنية المتاحة في مواقع الإنترنت، لطالما وجدت نفسي أمام كاتب يُشيد بأدب آسيا، متحدثاً عن العلاقة الوثيقة والأزلية بين كتّاب آسيا وأفريقيا منذ عصور الاستعمار والإمبريالية التي اجتاحت القارتين، وعن دور الأدب المشترك بينهما في مسيرة النضال والتحرر.

هذا الحديث أيقظ فيّ الحماسة وحرّضني على خوض غمار التجربة الأدبية في قراءة أعمال كتّاب من قارة آسيا، تماماً كما أقرأ حالياً في الأدب الأفريقي. لا يسعني إلا أن أذكر أن كتّابًا مثل صنبين عثمان، وأليكس لا غوما، ومارسيلينو دوس، وسونومين أودڤال كانوا، مثل نغوغي، يشيدون بالأدب الآسيوي ويرون فيه شريكاً في المقاومة والفكر.

وقبل أن أخطو أولى خطواتي في رحلة استكشاف الأدب الآسيوي، جاءتني من الكاتب العراقي محمد رشيد الشمسي روايته تحت عنوان “يد القمر حين يحلو لهم الخوف”. كانت هذه الرواية هي أول كتاب أقرأه من كتّاب تلك القارة، ولا أخفي عليكم مدى إعجابي الكبير بهذا العمل، الذي أضاء لي درب قراءة أعمال الأدباء العراقيين بشكل خاص، وأشعل رغبتي في مواصلة الإبحار في أدب آسيا بشكل عام.

لقد أكملت قراءة هذه الرواية في نهاية الشهر الماضي، لكنني لم أستطع أن أخصص الوقت الكافي لكتابة مقال عنها، نظراً لبعض الالتزامات، بالإضافة إلى الوقت الذي أقضيه في القراءة وكتابة مقالات حول الأدب الأفريقي، حيث أشارك بعضها وأحتفظ بالبعض الآخر لنفسي.

منذ أن بدأت في الغوص في صفحات هذا العمل، حتى وجدت نفسي مُعجباً بجمال السرد الذي يتميز به، وبالبوليفونية التي تنسج حبكة الرواية بطريقة متقنة. دائماً ما أجد نفسي مشدوداً إلى الكتّاب الذين يتناولون قضايا المجتمع، ويناصرون الثورة ضد الظلم والطغيان عبر أقلامهم، وهي القيم التي يؤمن بها نغوغي، كاتبي المفضل.

تدور أحداث الرواية حول الشاب “قمر يد” الذي يقرر التمرد على وضعه والبحث عن طريق للتحرر. تبدأ رحلته بالخروج من المنزل الذي كانت والدته قد حبسته فيه خوفاً من انتقام الملك، وهي ترمز هنا إلى الخوف الإنساني الذي يمنع الكثير من الأفراد من القيام بخطوات نحو الحرية.

يستعين قمر يد بحيلة تنكرية، مرتدياً زي النساء، ليكتشف المجتمع من منظور مختلف ويعيش مغامرة مليئة بالمخاطر. ومن خلال أحداث الرواية، نستطيع أن نرى الفروق الطبقية والتمييز الجنسي والعرقي بشكل صارخ، مما يجعل الرواية أقرب إلى لوحة فلسفية للنظام الاجتماعي والسياسي.

تحمل الرواية أبعاداً ميتا سردية واضحة، حيث يتحول السرد إلى فعل قصدي واعٍ من الكاتب، يقصد به نقد الواقع وتحليل آلياته. “يد القمر” بطل الرواية يحاول أن يهرب من قيود السلطة ويتحرر، ومع انتقاله إلى الغابة يعيش تجربة جديدة في وسط الحيوانات، وهو مشهد رمزي يعكس الأمل في حياة أكثر عدلاً وسلاماً، بعيداً عن الاستبداد البشري.

هنا تتحول الحيوانات إلى رمز للبساطة والنقاء، وتصبح بديلاً للطبيعة البشرية التي شوهتها السلطة والطغيان. تلك التجربة تذكرنا بنزعة “العودة إلى الطبيعة” التي طرحها الفيلسوف جان جاك روسو في فلسفته عن الإنسان الفطري.

الرواية تأخذ من الأسلوب البوليفوني متعدد الأصوات، وهو الأسلوب الذي ظهر بقوة في أعمال دوستويفسكي، حيث يتوارى الكاتب خلف شخصياته، مانحاً إياها حرية التعبير عن آرائها المختلفة. هذا التعدد في الأصوات يتيح للقارئ التفاعل مع الشخصيات والتعاطف معها من زوايا مختلفة.

من خلال رحلته في الغابة، يصبح “يد القمر” مناصراً للثورة ضد النظام القمعي الذي يحكم المملكة، مستخدماً الطيور كوسيلة لنقل رسائله للناس، داعياً إياهم للثورة على الظلم والبحث عن حياة كريمة، تماماً كما وجد هو ذلك السلام بين الحيوانات.

تلك الدعوة للثورة تتوافق مع فلسفة نغوغي واثيونغو، الذي طالما دعا إلى استخدام الأدب كوسيلة للنضال ضد الاستعمار والتهميش. هذه الرواية تسلط الضوء على قضية الانتماء والنضال، وعلى البحث عن معنى الحرية والكرامة. “يد القمر” هو رمز الإنسان الذي يحمل في داخله رغبة لا تهدأ للتحرر من كل القيود التي تحول بينه وبين العيش بكرامة.

الكاتب أبدع في تجسيد الصراع بين الفرد والمجتمع، وبين الإرادة الحرة والقيود المفروضة، وبين عالمين؛ عالم البشر وعالم الطبيعة. وهي رحلة فلسفية بامتياز، تعكس قدرة الأدب على أن يكون نافذة لفهم الواقع وكشفه وتعريته، بل والتأثير عليه وتغييره.

فالأدب هنا ليس مجرد حكاية، بل هو فعل مقاومة، يسعى من خلاله الكاتب لإحداث تغيير في وعي القارئ وفي المجتمع ككل. لقد نجح محمد الشمسي في أن يجسد هذا الصراع المعقد من خلال أسلوب روائي متميز، حيث يمزج بين الفنتازيا والواقعية، ويستخدم الرموز والتجريد بأسلوب يجعل من النص تجربة فكرية غنية.

إن هذه الرواية تثبت مجدداً أن الأدب هو سلاح فعّال في وجه الظلم والطغيان، وهو أداة لاستعادة الإنسان لإنسانيته، وللعودة إلى قيم الحرية والعدل والمساواة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *