منصة قلب إفريقيا الإخبارية

قراءة في رواية “لا تبكِ أيها الطفل” لعميد الأدب الأفريقي / نغوغي وا ثينغو

كتب :ياسر عبدالله ادم

وسط أحداث تمرّد الماو ماو، الحركة الثورية المسلحة التي واجهت الإمبريالية بقبضة فولاذية، يأخذنا نغوغي في هذه الرواية إلى قلب كينيا في الخمسينيات، لنعايش نضالات أهلها ضد الظلم والاستعباد. يتشابك الماضي مع الحاضر بينما يعيد الكاتب الحياة لبطولات “جيش الأرض والحرية” الذي كان أول من أخاف الإمبريالية في إفريقيا.

تمرد الماو ماو، أشبه بتمرد حركة الأنانيا ون في جنوب السودان عام 1955، وتنظيم الكَمولو السري في جبال النوبة عام 1972 الذي قام بمعارضة سياسات حكومة النميري من خلال النضال السلمي والكفاح المسلح معًا، بالإضافة إلى تنظيم سوني السري في دارفور عام 1963.

يجدر بالذكر أن ظهور هذه التنظيمات كان في أوقات متقاربة، متزامنًا مع اشتعال شرارة التحرير في مختلف البلدان الأفريقية لمواجهة الظلم واستبداد الكولونيالية والنيوكولونيالية واستئصالهما، وكذلك النضال ضد الحكومات الدكتاتورية البغيضة، دفاعًا عن الأرض والحرية.

 سأعود لاحقًا للحديث عن كل من هذه التنظيمات في سلسلة من المقالات المنفصلة والمبسطة. إما عن هذه الرواية، فهي بوابة لنفهم كينيا من خلال الصبي نغوروغي، الذي يسعى للتعلم في ظل الاضطهاد، لأنه كان يؤمن بأن التعليم هو سبيل النهضة، ويعيش حبًا غير مكتمل لمويهاكي، الفتاة التي تُمثل تداخل المعاناة الإنسانية، كونها ابنة الرجل الذي يعذب عائلته.

 هذه الحبكة الدرامية تلخص ببراعة مزيج الأمل واليأس في مجتمع مضطهد، وتتجاوز مجرد كونها قصة حب لتصبح رمزًا للصراعات التي تواجهها المجتمعات المستعمرة. يضع نغوغي بين أيدينا مشاعر إنسانية صادقة، محمولة على خلفية تاريخية صاخبة. كتب الرواية بروح عصرها، لكنه جعل منها عملاً خالدًا لا يعرف حدود الزمن.

إنها تجسد قوة الأدب الذي يعيد الحياة لتجارب الماضي ويجعلها مرآة لواقعنا المعاصر، حيث نستشعر فيها حرقة آمال الشباب وأحلامهم المحطمة، والطموح الثابت لتغيير العالم رغم كل الظروف.

هذه الرواية تثبت عبقرية نغوغي ككاتب لا يكتفي برواية الأحداث بل يعيد تشكيلها فنياً لتصل إلى أعمق مستويات الوجدان الإنساني. رغم أن أحداث الماو ماو قد انقضت، ورغم أن كينيا قد نالت استقلالها وتوالى عليها قادة كثر، إلا أن قصة نغوروغي تبقى شاهدة على الزمن، وتروي كيف تشابكت حياة الأفراد مع الأحداث السياسية، وكيف تشكلت معالم الهوية الأفريقية من خلال المقاومة.

نغوغي في هذه الرواية يعيد للذاكرة التاريخية قوتها، ويعيد للأمل دوره في بناء المجتمعات. لقد كان نغوغي وما يزال واحدًا من أعظم الكتّاب الأفارقة الذين أعادوا تعريف الأدب الاحتجاجي، فهو يتناول مواضيع القمع والاستعمار والنضال بطريقة لا تكتفي بالسرد، بل تتجاوز إلى تحليل النفس البشرية واستقصاء تأثير السياسة على الحياة اليومية.

إنه ينتمي لجيل الروائيين الذين يناضلون بالكلمات، والذين يستخدمون الأدب كوسيلة لبث الوعي والمقاومة. إذا كان هناك كتاب واحد فقط يمنح نغوغي مكانة لا تضاهى في الأدب الأفريقي، فهو “لا تبكِ أيها الطفل”، فقد أبدع في هذا العمل تجسيد واقع مُعقد، بلغة صادقة. قبل أن أقرأ لنغوغي، كنت مفتونًا بكتابات تشينوا أتشيبي، لكن بعد قراءتي لأول أعمال نغوغي، وجدت نفسي مأخوذًا بعمق إبداعه، ليس انتقاصًا من عظمة أتشيبي، بل لأن ما يقدمه نغوغي يتجاوز حدود الإبداع والجمال. وكلما أنهيت قراءة كتاب من كتب نغوغي وا ثينغو، شعرت بعمق الدَين له، وكأنني مدين له بمعروف لا يقدر بثمن.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *