منصة قلب إفريقيا الإخبارية

القتل الرحيم

أبو العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان بن حمدون التغلبي العدوي كان ممن مدحهم أبو الطيب المتنبي. غضب منه مرة فأرسل غلماناً له فلحقوه بظاهر حلب ليلاً فرماه أحدهم بسهم (نَبْل) وقال: خذه وأنا غلام أبي العشائر. فقال أبو الطيب قصيدته التي مطلعها :

ومُنْتَسِبٍ عِندي إلى مَنْ أُحِبّهُ * وللنَّبْلِ حَوْلي مِن يَدَيهِ حَفيفُ

ومنها قوله:

ونَفْسي لَهُ نَفْسي الفِداءُ لنَفْسِهِ * ولكِنّ بَعضَ المالِكينَ عَنيفُ

فإنْ كانَ يَبغي قَتْلَها يَكُ قاتِلاً * بكَفّيهِ فالقَتْلُ الشّريفُ شريفُ

وعاد في فرنسا جدل قديم حول (القتل الرحيم)، لا (القتل الشريف) الذي عناه المتنبئ تملقاً لمن أراد قتله. وقد صبّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مؤخراً، الزيت على نار هذا الجدل بتصريح كشف فيه عن نيته تقديم مشروع قانون يهدف لمساعدة “أي شخص يعاني من مرض خطير غير قابل للشفاء ويتألم بطريقة لا تحتمل” على إنهاء حياته بالقتل الرحيم داخلَ المستشفيات.

قلنا إن الجدل قديم لأنه يعود لعقود خلت. ففي 1999 صدر قانون كوشنير حول “حق الوصول إلى الرعاية التلطيفية”. وفي عام 2000 أصيب الشاب الفرنسي فرانسوا هومبير في حادث شلّ كل حواسه ماعدا السمع والإدراك. كتب رسالة لرئيس الجمهورية وقتها، جاك شيراك، يطلب فيها السماح له بإنهاء حياته. لكن الرئيس رفض طلبه. وظل متصلا بأجهزة إنعاش حتى 2003 حيث قرر الأطباء فصله عن الأجهزة ليفارق الحياة، بعد موافقته هو وموافقة عائلته، رغم أن القانون لم يكن يسمح لهم بفعل ذلك.  في 2005، صدر قانون ليونيتي (Loi Lionetti) الذي يمنع (العلاج القاسي) وتم تعديله في 2016 ليسمح للأطباء بوضع المرضى الميؤوس من شفائهم في غيبوبة عميقة عن طريق التخدير حتى وفاتهم.

وثارت بعد ذلك قضية شخص آخر عقب انقسام أسرته حول وضح حد لحياته قبل ان يفصل القضاء في 2019، بعد عشر سنوات من الجدل داخل أروقته، ويسمح للأطباء بفصل أجهزة الإنعاش عنه. 

ودُعِي 184 مواطناً فرنسياً في ديسمبر 2023، بمبادرة من رئيس الجمهورية، لإبداء رأيهم حول التطور المحتمل لـ(قانون ليونيتي). وفي الثاني من أبريل 2024، أعلنت اتفاقية المواطنين حول نهاية الحياة” التي كشفت أن 76% منهم أبدوا رغبتهم في (تقنين الموت الرحيم في حالات معينة).

وعاد الجدل إلى الواجهة مرة أخرى بعد أن قررت ليدي إيمهوف وهي فرنسية تبلغ من العمر 43 عاما، ولدت شبه عمياء وتعاني الشلل النصفي، قبل أن تبدأ تدريجيا تفقد القدرة على استخدام أطرافها، التوجه إلى بلجيكا لإنهاء حياتها، حيث يبيح القانون هناك الموت الرحيم. وفي تقرير على (فرانس 24)، أعدته مها فريد، بدت هذه السيدة متماسكة جداً وقالت إنها “تتمنى أن ترتاح من صراعها مع مرضها ومع عجزها ومع كل شيء”. بل إنها ابتسمت عندما شرح لها الطبيب طريقة الموت بحقنها بمادة الباربيتورات “التي ستجعلها تنام دون معاناة بعد أقل من دقيقة”. ولما سألها: “هل توافقين؟” أجابت بابتسامة أعرض بـ”نعم” ممطوطة (Ouiiiii). لكنها لم تتمالك دموعها عندما قالت إنها “تفكر في الأشخاص الذين ستتركهم وراءها”. ذكر الطبيب أن ما قام به لا يتعارض مع أخلاقيات مهنته. وأنه لا يشعر بأنه قتلها، “بل وضع حداً لمعناتها”.

وسبقها المواطن الفرنسي ألان كوك في 2021 الذي “حقق حلمه بالموت الرحيم”، حسب تقرير بُث وقتها على الـ(BBC). وكان كوك قد قرر إنهاء حياته، قبل ذلك، بالامتناع عن تناول الطعام والشراب، باستثناء الأدوية التي تخفف الآلام، بعد أن رفض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي السماح له بوضع حد لحياته. وبدأ يبث تطور حالته على صفحته على الفيسبوك “ليظهر للفرنسيين معاناته نتيجة القانون المتعلق بالحق في الموت الرحيم”، قبل أن تحظر إدارة هذه المنصة بث الفيديوهات، “لأن سياساتها لا تسمح بتصوير الانتحار”.

مثل هذه الأمور تثير بالطبع جدلاُ دينياً وقانونياً وأخلاقياً واجتماعياً، وسياسياً كذلك، يمكن التماسه في الشبكة العنكبوتية وفي محطات التلفزة والراديو كلما حمي وطيس الجدل وعاد إلى الواجهة.. لكن من المهم التذكير بموقف البابا فرنسيس الذي عبر عنه خلال لقائه بالرئيس الفرنسي في أكتوبر 2022 في الفاتيكان، حيث أكد أنه “لا يمكن العبث بالحياة، لا في البداية ولا في النهاية”. ودعا “للتنبه للاستعمارات الأيديولوجية التي تتعارض مع حياة الإنسان”. وحذر من أن الأمر “سينتهي بسياسة تقوم على قتل رحيم إنساني لا يتسبب بأي ألم”.

تحاشيت هنا لفظ (انتحار) الذي أوردته بعض المصادر التي ذكرتها آنفاً، نفوراً منه، ولأنه لا ينطبق، عندي، على هذه الحالات. ففي حالة الانتحار يقوم الشخص بوضع حد لحياته بنفسه. أما هنا فيقوم شخص آخر (الطبيب) بـ(قتله). أمر آخر هو أن الإنتحار، أعاذكم الله، يكون قراراً فردياً من الشخص المعني، دون استشارة وموافقة أسرته كما هو الحال هنا.  

نحمد ربنا على نعمة الإسلام، ونسأله، تعالى، شفاء من العلل البدنية والنفسية. وأن يجنب الأطباء المسلمين العاملين في هذه البلدان امتحاناً كهذا، لأن واجبهم المهني وقسم أبقراطهم يلزمهم وضع حد لمعاناة مرضاهم الذي قرروا إنهاء حيواتهم.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *