منصة قلب إفريقيا الإخبارية

مفهوم الحداثة في الكتابات حول تاريخ السودان

د. عاطف الحاج سعيد

“الماضي لم يعد موجوداً، المستقبل لم يوجد بعد، الحاضر ما هو إلا حدود مبهمة – لا وجود للزمن”. (هيرش، 104:1993)

يحتفظ هذا التبصر الذي صاغه القديس أوغسطين قبل ستة عشر قرناً بكامل صلاحيته في عصر الثورة المعلوماتية، إذ يبقى الزمن، الذي عبرت عنه بالرمز وجسمته أدوات متصاعدة التعقيد، لغزاً بالنسبة للعقل البشري. واعتراضاً على سمات الزمن غير القابلة للإحاطة، صنعت المجتمعات البشرية أجهزة بصرية وإدراكية تسمح لها بتخيل التجربة الإنسانية في امتدادها الزماني وجعلها متاحة أكثر.

يكشف مفهوم الحداثة، الذي أطرح بصدده تفكيراً نقدياً في سياق الكتابات حول التاريخ السوداني، عن مسألة أساسية ترتبط بالعلاقة بين الحاضر والماضي، وهما بالطبع فكرتان مجنحتان لكنهما مركزيتان في التجربة الفردانية وفي الحياة ضمن مجتمع.

يستند هذا البحث على تمييز كشفي وجوهري بين المقولات المعيارية والمقولات التحليلية استدعاه حديثاً مؤرخ متخصص في الشأن الأفريقي والدراسات الكولونيالية. يستخدم المؤرخون المقولات المعيارية بينما يستخدم الباحثون في العلوم الاجتماعية المقولات التحليلية، فالمقولات المعيارية هي إذاً مقولات تطبيقية تختص بالحياة اليومية، نقيضاً لذلك تعد المقولات التحليلية من أدوات البحث العلمي (Cooper 2005:62).

وإذ أقود محاولة نظرية وتجريبية، فإنني أفهم الحداثة بوصفها مقولة تحليلية صاغها مؤرخو السودان الذين يمثل منتجهم الأكاديمي ذاته موضوع هذا البحث. إذاً يعمل هذا البحث على هدم الاستخدامات العلمية لمفهوم، بالرغم من أو بفضل تشظيه الدلالي، لا يتوقف عن تغذية النقاشات الحية في الوسط الجامعي لا سيما في مجال دراسات ما بعد الكولونيالية.

تتكون الوثائق أو المتون الأساسية التي اخترناها لهذه الدراسة من مقالات ومؤلفات كتبها مؤرخون من بريطانيا والسودان وفرنسا وهولندا وأميركا واليابان وإسرائيل، وهي تتناول ملامح متنوعة من السودان المعاصر ونٌشرت خلال الفترة من 1959م إلى 2008م.

ما المعاني التي منحها المشتغلون بتاريخ السودان لمفهوم الحداثة وكيف يستخدمون هذا المفهوم في بحوثهم؟

ينطوي استخدام مصطلح “حداثة” على رؤية ما للتجربة الإنسانية التي قسمها المؤرخون إلى فترات متمايزة لكي يستطيعوا الإحاطة بها بصورة أفضل. سألخص في البدء طريقة تناول الحداثة في فرنسا وفي بريطانيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. تتلاءم هذه المفاهيم الأوروبية مع تفكيرنا لأنها طبقت بصورة متكررة في أقاليم غير أوروبية ومن ضمنها السودان. سأقدم بعد ذلك تحليل للاستخدامات الأكاديمية لمصطلح الحداثة في الكتابات حول التأريخ السوداني عبر الأعمال التاريخية واسعة النطاق (موضوعاتها عامة وتغطي فترات تتجاوز نصف قرن)، عبر انتقاء لدراسات أكثر تحديداً تعالج بصورة واضحة أو مضمنة مسألة الحداثة. ونتساءل لمعرفة ما إذا كان التنوع الكبير في المقاربات والموضوعات التي تميز هذه الدراسات يتطابق مع المعاني المتراوحة لمفهوم الحداثة.

يصدر قريباً عن منشورات عندليب.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *