منصة قلب إفريقيا الإخبارية

غوانتنامو العواصم العربية

شرفني الأستاذ سامي الحاج، السجين السابق رقم 345، بمعتقل غوانتنامو، بإهداء نسخة من كتابه المبكي (غوانتنامو…قصتي)، مع كلمات رقيقة بخط يده بتاريخ 8 أغسطس 2018م، وكنت حريصاً على حمل هذا الكتاب معي في حلي وترحالي حتى أتعرف من خلاله على إحدى أكبر سقطات الغرب في العصر الحديث، وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، لا سيما وأن الكتاب يمثل شهادة سمعية وبصرية لأحد الناجين من هذه المحرقة الإنسانية التي سكت عنها العالم أجمع، بينما لا يزال أنين المحتجزين هناك يتعالى في انتظار أن يسمعهم الضمير الإنساني الدولي الأصم!

عندما شرعت في تصفح الكتاب، كنت أظن أنني سأفرغ منه خلال وقت قصير، ولكنني تفاجأت بعدم مقدرتي على الاستمرار في القراءة، وحاولت كثيراً تخطي هذه العقبة ولكنني كنت اصطدم بقسوة الظلم وألم الغبن ومرارة الذل والمهانة التي حاول سامي الحاج أن ينقلها للعالم بطريقة مخففة للغاية، ولكن تفاعلي الداخلي مع صفحات الكتاب كان شديداً فلم احتمل الاستمرار في القراءة، وكثيراً ما كنت أدفن وجهي في صفحات الكتاب هروباً من بشاعة المواقف التي يسردها الكاتب، وهو الذي عايشها حقيقة، بينما يغلي صدري غضباً وحرقة، وقد تكررت محاولاتي لقراءة الكتاب بشيء من الجلد والثبات إلا أنها كانت تفشل دائماً بسبب ذات الشعور، فلا أملك إلا أن أعيده برفق إلى مكانه في المكتبة، في انتظار أن تتعافى دواخلي التي أتعبها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

أفاق العالم يوم 7 أكتوبر 2023م مذعوراً من شدة هول “طوفان الأقصى”، وتسمر الناس أمام شاشات التلفاز يشاهدون تداعيات هذا السيناريو الرهيب، لتتشكل بعدها المواقف المخزية للمجتمع الدولي وبات الناس يستمعون إلى قادة العالم وهم يدينون بأشد العبارات هذه “الهجمات البربرية” من جانب حماس ويعلنون وقوفهم ودعمهم غير المحدود لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، ولتجميل مواقفهم يضيفون عبارة “بما يتوافق مع القانون الإنساني الدولي”.

وعندما نرى الدمار الذي لحق بغزة وأشلاء الآلاف من النساء والأطفال والرجال الأبرياء الذين قضوا تحت الأنقاض جراء القصف المتعمد للبنايات السكنية والملاجئ التي يحتمون بها، يتأكد لي أن “القانون الإنساني الدولي” أكذوبة كُبرى ومهزلة عالمية، وما هو إلا مجرد نصوص تكتبها القوى العظمى وتشكلها حسب ما يقتضي الظرف والمكان.

أجبرني “طوفان الأقصى” في الشرق الأوسط إلى العودة إلى “غوانتنامو” في أقصى جنوب شرق كوبا، وبدأت أعيد قراءة قصة سامي الحاج وأنا أكثر استعداداً للتطواف على كل أرجاء ذلك المعتقل البغيض، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه يمثل همجية هذا العصر، لأشاهد بأم عيني كيف يُطبق “القانون الإنساني الدولي” على المحتجزين، وأسمع أنين المعتقلين، وأقف عند مشاهد التعذيب والتنكيل، وكيف تهان كرامتهم وتدنس أعراضهم، وكأنهم لا ينتمون إلى هذا العالم البشري، والعالم الأول المتحضر يشاهد ويراقب ولا يحرك ساكناً، فالقانون الإنساني الدولي حكر على من ينتمون إليه فقط، أما بقية العالم، فلا بواكي له.  

إن ما يحدث اليوم في هذا العالم أمر بشع وظلم فظيع وطغيان بغيض، ولا أظن أن الإنسانية تحتاج إلى أدلة دامغة وحجج قوية لإثبات سقوطها في مستنقع الوحشية والدونية الحيوانية، إذ أن ما يجري في غزة، وما حدث ويحدث في غوانتنامو، هي سقطات كبرى في مسيرتنا البشرية، ويمكن لهذا السيناريو أن يتكرر بصورة أعنف وأقسى وفوق ما يتصور العقل والخيال، ما لم ننتبه ونستيقظ!

إن الظلم ظلمات يوم القيامة، وقد أعد الله حساباً عسيراً لكل من طغى وتجبر، فهو رب الكون يتصرف فيه كما يشاء، ولكننا نحتاج أن نكون قادرين على رد الظلم والعدوان في الدنيا قبل الآخرة، فلم يأمرنا الله بالخضوع للذل والمهانة، ولكنه قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

يمثل سجن غوانتنامو وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء، وإنه لخزي أعظم أن يغض العالم الطرف عن جريمة غوانتنامو وتصمت الأنظمة عن الفظائع التي حدثت وما زالت تحدث في ذلك المكان. فمن يحاسب السجان على جرائمه ومن يعيد الحرية والكرامة لمن كان فيه؟ وما زال الغرب يحدثنا عن حقوق الإنسان وضرورة المساءلة وعدم الإفلات من العقاب!

 هل تستطيع العواصم العربية والإسلامية، وإن اجتمعت، أن تفتح في أراضيها معتقلات مثل غوانتنامو؟ لن يستطيع التجمع العربي الإسلامي (وإن وُجد يوماً ما)، أن ينطق بكلمة واحدة ضد الصلف الإمبريالي، ولن ينجح مطلقاً في القيام بأي عمل جماعي مناهض لفكرة الظلم الغربي، وما غوانتنامو وغزة إلا بعض أمثلة يندى لها الجبين.

ما أشعر به من غضب وثورة، جراء ما يحصل الآن، وأحسب أن غيري كثيرين، يختزل الحالة الآسنة التي يتمرغ فيها عالم اليوم، ولا نملك إلا أن نتنفس روائح الأنظمة النتنة ودخان الذل والانكسار والخنوع التي نعيشها في مواجهة الصلف والجبروت والطغيان الذي يمارس علينا.

أيتها الأنظمة “العبرية الإسرامية”:

لقد نصب الغرب مشانق للحرية وللقانون الإنساني الدولي في خليج غوانتنامو الذي يبعد عنكم آلاف الأميال، ولكنه سينصب ذات المشانق، بل أسوأها، وقريباً جداً، في سوح دوركم، ومنيع قصوركم، فهل أنتم جاهزون؟

إن الحرية تولد معنا ومن يسلبها منا فلا بد أن نسترجعها منه كاملة غير منقوصة وإلا فلنبقى خلف الأبواب نستمع إلى زناة الليل وهم يغتصبون شرفنا وبعد الحمل ندق سرادق الفرح لنحتفل بمجيء أنظمة السفاح!!!   

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *