منصة قلب إفريقيا الإخبارية

الأمثال

وقعتُ على كتاب بعنوان (موسوعة الأمثال والأقوال المأثورة [الفرنسية]). فكرت في البدء أن أورد بعض الأمثال التي تماثل أمثالنا السودانية، مبنى أو معنى. مثل: البعد عدو الحب (بعيد عن العين، بعيد عن القلب)، من يصحو مبكراً يساعده الله و يمد له يده (يا إيد البدري..)، يبحث عن إبرة في كومة قش. عصفورة في اليد، خير من أوزة طائرة، الصداقة الحقة تُرى عند الشدائد، الحمار فقط هو الذي يعرف مكان إيلام السرج (الجمرة بتحرق الواطيها)، إعطاء الصدقات لا يفقر (ما نقص مال من صدقة)، أضرب الكلب أمام الذئب (دُق القراف خلي الجمل يخاف)، أتاه الخير و هو نائم (قام من نومو لقى كومو)، يُمسَك الثور من قرنيه و الرجل من لسانه، لا سعادة بلا ألم (مافي حلاوة بدون نار)، الأعور ملك في مملكة العميان (الطشاش في بلد العمي شوف)، اطلب العلم ولو فـي الصين… و غيرها.

لكني وجدت كثيرين قد طرقوا هذا الباب. و لمست مشقة في سلوك هذا الدرب لأن قائل المثل او القول المأثور ابن بيئته. لذا قد لا تُفهم أمثال بلد في بلد آخر، كأن تقول لأجنبي (دا أردب ويكة ما بلايقو). أو أن يقول لك فرنسي (ظهور [طائر] سنونو واحد لا يعني قدوم الربيع)، بمعنى أنه لا يمكن الجزم بنتيجة ما بناء على مقدمة واحدة. و قد لا يدرك شخص مدلولات مثل أو قول ماثور لاختلاف نظرته للأمر موضوع المثل. فإذا اخذنا المرأة مثالاً، فإن الغربي يراها مساوية له في الحقوق و الواجبات و تقوم على شئون نفسها بنفسها. و قد تكون رئيسة له في عمله أو على دولته، بكل رجالها، ملتحين و مرداً. فإنه لا يفهم، أو لا يقتنع بقولنا: (المرة إن بقت فاس ما بتشق الراس)، أو (المرة ما بدوها رسن)، أو (ما تتحزم بالنسوان: فزعن زغاريد وسلاحن بكا).. الراجل دا ما سمع بأنديرا غاندي أو غولدا مائير و لا مارغريت تاتشر؟!.  أما أنت، صديقي القارئ الكريم، فإني أدعوك أن تحاول ألف مرة إفهام غربي أنك قد فارقت زوجتك و أم عيالك التسعة لأنك (حلفت طلاق) على شخصٍ ما أن يشرب فنجان قهوة و (كسر حلفك)!

 لذا عنّ لي أن أعرض عن هذا و أشير إلى عَوار بعض سلوكنا السيئ، خاصة ما أظهرته الحرب الأخيرة في بلادنا، مما غرسناه في صغارنا عبر بعض أمثالنا الشعبية. والمثل الشعبي كما يقول نايف النوايسة هو “أقوى أعمدة الأدب تأثيرًا وأكثرها شيوعاً لعبارته الوجيزة وسهولة حفظه وملامسته لحياة الناس وتجاربهم وخبراتهم “. و علينا ان نعترف بأننا قد غرسنا بعض (القيم المشينة) في نفوس صغارنا و أن نسعى لتصحيح ذلك، بدلا عن محاولة مداراته بأكاذيب و مغالطات و اختراع بطولات، من شاكلة “النار ولعت بكفي بطفيها”، و “بَل فرّ جمع الطاغية”. و (بل) هنا “حرف إضراب عما قبله” كما يقول النحاة، ولا علاقة له بمدلول الـ(البل) المتداول حالياً!!. و قد تناولت ذلك في كلمتين منشورتين في هذه الصفحة قبل أكثر من عامين بعنوان (F.F.R.).

من أمثالنا التي غرست قبيح القيم نورد، مثالاً لا حصراً : جلداً ما جلدك جر فيه الشوك… دار أبوك كان خربت شيل ليك منها شلية… بلدا ما بلدك أمشي فيه عريان… الزاد كان ما كفى ناس البيت حرم على الجيران… كان غلبك سدها، وسع قدها… كان كترت عليك الهموم ادمدم و نوم… المرأة لو بقت فاس ما بتشق الراس … ما يقطع الصلاة إلا الكلب والحمار والمرة (و هذا أقبح ما وقفت عليه، بسبب إلباسه ثوباً فقهياً). لكن يمكن لنصفنا الحلو أن يجد عزاءً في هذا المثل (الراجل أفجخي بصلة، قبل ما يبقي أصلة!). و للمثل رواية أخرى توصي الرجال بفعل ذلك. فكل يغني على ليلاه.

و هناك المثل الإنجليزي (Jack of all trades, master of none) الذي يستخدم للإشارة إلى شخص انخرط في العديد من المهارات بدلاً من اكتساب الخبرة من خلال التركيز على واحدة (حسب تعريف ويكيبيديا)، و يقابله عندنا (سبعة صنائع و البخت ضائع). لكنه يضرب عندنا للتحسر أكثر من كونه دعوة للتجويد. و كذلك، مما يدعو إلى قتل الهمم (ركاب سرجين وقيع و مساك دربين ضهيب) و يقابله عند الفرنسيين (داير يطير قبل ما يكون عنده جناحين). و قد مررت بنفس التجربة عندما كنت في آخر سنوات دراستي بجامعة الخرطوم، حين قلت لصديق فرنسي، بكل فخر: ( تعرف، أنا نجار و بناء و ترزي و كهربجي و مصور فوتوغرافي… دا غير جِلّيد العناقريب!!). كيف لا و أنا حفيد من قيل فيهم (جمع الطُرف و المَّ من كل علم بطرف)؟.. قال لي مُحبِطاً : (تعرف، عمرك ما حا تكون مبدع). المصيبة أني لم أسمع نصيحته فأبدع في مجال واحد و لا ترك لي قوله المحبِط رغبة في مواصلة ما كنت عليه و (أمشي فوق عديلي). فلم أظفر ببلح الشام ولا عنب اليمن. و من الطرائف إني علمت مؤخراً، بعد أن هرمنا و زالت الكبكبة بيننا و زميلاتنا و جاء وقت فتح الدفاتر القديمة أنهن كنا يطلقن عليّ لقب (يحيى الأسطى)، فتامل!

و الأمر لا يقتصر فقط على الأمثال التي نسمعها و نستوعب مدلولها بعد أن نكبر و نعي. و إنما هناك صفات ذميمة، كالأنانية و الإثرة و عدم تمني الخير للآخرين و حجبه عنهم، مما غرسناها في أطفالنا منذ الصغر، بتهديدنا للطفل عندما يرفض أن يأكل، حتى لو لم يكن جائعاً أو لم تكن لديه شهية، بقولنا: (كان ما أكلت حا نديه لأخوك فلان)، فيأكل المسكين لا عن رغبة، بل حتى لا يظفر المسكين الآخر بهذا الطعام. و يكون بذلك قد حرمه من الطعام و (منعه من النزول في كسلا !!). و غرسنا فيهم ايضاً الخوف و الرعب عندما هددناهم بود أم بعوللو (عايزين ترجمة) و الغول و حقنة الدكتور.  فينشأ الطفل و هو يرهب الأماكن المظلمة و يفضل القرض و الحرجل على الذهاب إلى الطبيب. و عززنا ذلك بـ(الخواف ربى عياله). و هذه أمراض أصبت ببعضها و عايشت آخرين قد اصيبوا بها.. أوردها هنا دون أن اقتراح حلول، لأن ذلك بيد علماء النفس و الاجتماع و التربية، و أنا لست منهم، و لا من الغاوين الذين يتبعونهم. 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *