منصة قلب إفريقيا الإخبارية

بين جبال النوبة في السودان وجمال النوبة في كينيا

المعز محمد الحسن

قبائل جبال النوبة تمثل خميرة المزيج الجيني السوداني والدماء النوبية هي القاسم المشترك لكل الطيف الإثني في السودان فلا تكاد مجموعة إثنية تخلوا منها. والسبب في ذلك يعود لموقع جبال النوبة الذي يتوسط السودان (القديم) ولما تتمتع به هذه القبائل من انفتاح وتسامح ثقافي مكناها من التعايش والتأقلم مع كل المجتمعات السودانية.

وجدتهم هنا في كينيا ينثرون جمالاً سودانياً ساحراً. جاءوا قبل أكثر من قرن واستوطنوا هذه البقاع بتراثهم الملون وإيقاعاتهم الساحرة وروحهم المفعمة بالحياة. رغم اندماجهم في المجتمع الكيني لم ينسوا تقاليدهم وتراثهم السوداني. يتحدثون السواحلية والإنجليزية والعربية، بالإضافة للغات محلية أخرى. نساءهم ينسجن السعف “أطباقاً” و “بروشاً” ملونة ويتزين بالـ”سكسك” ويرسمن الحناء على أيديهن وأرجلهن ويصنعن الكسرة والعصيدة. يدينون بالإسلام ويحرصون على تعليم أبناءهم اللغة العربية. أسماؤهم جمعة ومرسال وسامي وموسى.

لفت نظري لذلك الموضوع الأخ الصديق مبارك أبو الروس. كنا نتحدث عن التراث وجمال البادية في السودان وحدثته عن التشابه الكبير بين الريف الكيني وكردفان في الخريف. فذكر لي أنه صادف رجلاً كينيا يحمل اسماً سودانياً قحاً وذكر له أن قبيلته هاجرت من السودان إلى كينيا قبل زمن طويل. كنت أعرف أن هناك قبائل نوبية أتت إلى كينيا مع الجيش البريطاني، ولكني لم أتصور أنها لا زالت وبعد ستة أجيال متمسكة بجذورها السودانية وبانتمائها الروحي لوطن الأجداد، السودان، الذي لم يره أفرادها ولا يعرفونه إلا عبر ما نقله لهم أسلافهم.

فما قصتهم وماذا جاء بهم إلى هنا ليشكلوا القبيلة الثالثة والأربعين في كينيا ويضيفوا لوناً جديداً مميزاً لألوان الطيف الكيني؟

في بداية إقامتي في كينيا، لفت نظري في أحد الأيام شاب كيني يرتدي طربوشاً عثمانياً أحمرأ يشبه الطرابيش التي نراها في الأفلام المصرية القديمة. أثار ذلك دهشتي وكنت صادفت قبل ذلك مجموعة من الشباب يرتدون نفس الطربوش. سألت زميلة كينية عن سر ذلك فأجابتني أنها مجرد موضة (style). الحقيقة لم أقتنع بذلك التفسير. واكتشفت لاحقاً أن ذلك الطربوش هو العلامة المميزة لقومية النوبة في كينيا وقد ورثوه عن أسلافهم الذي كانوا يعملون في الجيش المصري وأصبح جزءاً من زيهم القومي يحرصون على ارتداءه في مناسباتهم الاجتماعية الخاصة.

يعود تاريخ هؤلاء النوبة الكينيين إلى حملة محمد علي باشا في السودان، حيث كان من ضمن أهداف هذه الحملة الحصول على الجنود السودانيين لتجنيدهم في الجيش المصري. وقد وجد محمد علي ضالته في النوبة الذين يقول عنهم الكاتب شوقي بدري إنهم “يمتازون بالصبر وقوة التحمل والقوة الجسدية، والشجاعة الفائقة والانضباط”. فلا غرابة أن النوبة حتى يومنا هذا يمثلون العمود الفقري للجيش السوداني ومعظم “التعلمجية” هم من النوبة والصولات في المدارس الثانوية في السابق. وفي مصر كانوا يجندون في حرس الحدود، لما عرفوا به من أمانة وشجاعة وعدم قبولهم للرشوة من تجار الحشيش. وقد قادت هذه الشهرة الجنود النوبيين للقتال في كبرى جيوش العالم وفي بقاع نائية من موطنهم.

من ذلك أن نابليون الثالث “إبن شقيق نابليون بونابورت” عندما غزا المكسيك في 1861 عانى جنوده من أمراض المناطق الحارة ومات أكثر من نصفهم بسبب الحمى الصفراء والملاريا. وباءت بالفشل محاولات الأطباء والباحثين الذين عكفوا على دراسة هذه الأمراض لمحاولة فهمها وتفاديها، وتوصلوا أخيراً إلى أن المشكلة تكمن في أن الأوروبيين كانوا أقل مناعة من سكان المناطق الحارة ضد تلك الأمراض وأشاروا على نابوليون بجلب جنود سود للقتال في المكسيك. في 1863 قام المندوب الفرنسي في القاهرة بالاتصال بسعيد باشا خديوي مصر طالباً منه إمداده بثلاث كتائب من الجنود السودانيين وفعلاُ استجاب الخديوي لطلب نابليون، ولكنه أرسل كتيبة واحدة حتى لا يثير غضب البريطانيين. جهزت الكتيبة السودانية المكونة من 437 جندياً وغادرت ميناء سواكن إلى مصر. وبعد تجهيزها بالزي والسلاح أبحرت من ميناء الإسكندرية في رحلة امتدت لأربعة وأربعين يوما قبل أن ترسو في شواطئ المكسيك. وعلى الرغم من انتشار وباء التايفويد الذي قضى على العشرات من هؤلاء الجنود إلا أنهم أبلوا بلاءً عظيماً في مواجهة الحركات المتمردة في المكسيك ووصفهم قائدهم الفرنسي بأنهم “لم يكونوا جنود وإنما كانوا أسوداً”. تبقى من هذه الكتيبة 326 جندياً. وفي طريق عودتهم إلى الإسكندرية، أخذوا إلى باريس وقام نابليون باستعراضهم وكرم 56 منهم بتقليدهم ميداليات الشرف ومنح قائدهم محمد الماظ وسام الجدارة من يدي الإمبراطور شخصياً. ومن الأسماء التي وردت في الوثائق التي كتبت عن هؤلاء الجنود وتم تكريمهم بصفة خاصة: فرح الزيني ومحمد سليمان وجادين أحمد ومحمد الحاج وإدريس النعيم وعبد الله سودان. وذاع صيت هذه الكتيبة حتى أن ألمانيا طلبت لاحقاً الإذن من الخديوي لتجنيد سودانيين للعمل ضمن قواتها في شرق أفريقيا.

عندما عين غردون باشا حاكما عاماً على السودان في 1876، عين محمد أمين باشا خلفاً له في الاستوائية. وهو طبيب ألماني اسمه الأصلي ايزاك إدوارد شنيتزر. كان أمين باشا يقود ثلاث حاميات من الجنود المصريين السودانيين ومعظمهم من قبائل النوبة وكان من أشهر قادة تلك القوات ضابط يدعى سليم بيه مطر وهو من أبناء جنوب كردفان ولد في مدينة كبوشية في مديرية بربر وخدم والده في جيش محمد علي باشا كما خدم هو نفسه في الجيش المصري في السودان وفي مصر. عند قيام الثورة المهدية ومقتل غردون باشا واستيلاء الأنصار على الخرطوم، أصبحت تلك القوة معزولة في الإستوائية ووصلت الأنباء لأمين باشا بأن الأنصار قد حشدوا قواتهم للاستيلاء على المديرية الاستوائية. حاول أمين باشا إقناع سليم بيه بالانسحاب إلى زنجبار ومنها للقاهرة إلا أن سلم بيه رفض معتبراً انسحابهم خيانة للخديوي. وبعد سنوات من سقوط الخرطوم ساءت أحوال القوات السودانية واضطر سليم للانسحاب بقواته وبرفقتهم أسرهم جنوباً إلى يوغندا وهناك تم تجنيدهم من قبل الجيش البريطاني للخدمة في قوات الشركة البريطانية الإمبريالية في شرق أفريقيا وكان ذلك في العام 1891. وقد أورد البروفسور إبراهيم الزين صغيرون في مقال له بعنوان “من تاريخ ما أهمله التاريخ وصف قائد القوات البريطانية لسليم بيه مطر ورجاله: “… وصف الرائد ليوقارد سليم بيه بأنه رجل ذو شخصية عظيمة لم يقارب في حياته خمرا ولم يدخن تبغا أبدا. كان رجلا ذا عزيمة ماضية، ويشهد على ذلك الخط المستقل الذي اختطه لنفسه عندما ادلهمت الأمور في السودان واضطربت الأوضاع في السنوات القليلة الفائتة مع أمين باشا”…. ويواصل الكاتب قائلاً أنه في رسالة خاصة كتبها الرائد ويليامز للرائد ليوقارد ورد ذكر سليم بيه حيث كتب يقول: ” لطالما وجدت سليم بيه رجلا مستقيما لين الجانب دمث الأخلاق… أما عن الرجال … هم سندنا و قوتنا… و بوغندا تعلم ذلك جيدا. ما من أحد غيري يمكنه الحكم علي هؤلاء الرجال” (كانت يوغندا في ذلك الوقت تعرف بممكلة بوغندا). بلغ عدد هؤلاء الجنود أكثر من ألفي جندي وحوالى ثمانية آلاف بالنساء و الأطفال. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى كان العديد منهم قد تقاعد وبدأوا في الاستيطان في يوغندا وكينيا وتنزانيا. ورفضت الحكومة البريطانية طلبهم بإعادتهم إلى السودان وخصصت لهم مستوطنات في عدة مناطق في يوغندا وكينيا. بالنسبة لمن كانوا في كينيا قامت الحكومة البريطانية بمنحهم مستوطنة بالقرب من غابة تقع في أطراف نيروبي، التي كان البريطانيون قد أنشأوها لتكون محطة رئيسة في خط السكة الحديدي الرابط بين تنزانيا ويوغندا. أطلق الجنود السودانيون على موطنهم الجديد اسم “كبيرا” بكسر الكاف، ويقولون أنه يعني في لغة النوبة الغابة الصغيرة. حُرّف الاسم فيما بعد إلى “كبرا” ونمت المدينة الجديدة بصورة كبيرة لتصبح اليوم أكبر مدينة عشوائية في أفريقيا ويسكنها العديد من القبائل والأجناس ولكن النوبة هم العنصر الغالب فيها.

ويتمسك النوبة حتى وقتنا الحاضر بتراثهم السوداني الذي يعكسونه في أزيائهم ومأكولاتهم التي لازالت تحتفظ بنفس الأسماء السودانية: الفركة والكسرة والعصيدة والقراصة وملاح اللايوق. ويتحدث كبار السن منهم العربية بلهجة أقرب لعربي جوبا، أما الشباب فيتحدثون خليطاً من السواحيلية والعربية. ويشتهر النوبة في كينيا باعتدادهم الشديد بشخصيتهم لدرجة أن بعض الكينين يصفونهم بالتعالي. ويحكى في ذلك أن المناضلين الكينيين في زمن الاستعمار كانوا يختبئون في “كبرا” في حماية النوبة نسبة لأن جنود الحكومة لم يكونوا يجرؤون على دخولها. وقد فعل ذلك الرئيس جومو كينياتا الذي أصبح فيما بعد أول رئيس للدولة الكينية بعد الاستقلال. ويقال إنه قام بدعوة أعيان النوبة للقصر الرئاسي لتكريمهم على دورهم في النضال الوطني الكيني. إلا أن تلك الدعوة أغضبت النوبيين لأنهم كانوا يعتقدون أن الواجب يقتضي أن يحضر الرئيس إليهم لأنهم هم من كانوا يأوونه وليس العكس.

ورغم أن الشعب النوبي يعيش في كينيا في سلام وتسامح مع بقية الشعب الكيني مستفيداً مما يتميز به هذا الشعب من انفتاح وقبول للتعدد الثقافي والديني العرقي، إلا أن الحكومة لم تعترف بهم كمواطنين كينينين بشكل رسمي إلا مؤخرا. وخاض النوبة صراعاً طويلاً من أجل ذلك الاعتراف إلى أن توج نضالهم في عام 2011 بإعلان الحكومة الكينية أن النوبة أصبحوا يمثلون القبيلة رقم 43 في كينيا ويحق لهم الحصول على أوراق الهوية الكينية. وخاض النوبة معركة أخرى من اجل الحصول على اعتراف الحكومة بملكيتهم لأراضي “كبرا” وكانت الأرض التي يعيشون عليها مسجلة كأراضٍ مملوكة للحكومة وقد حدث ذلك في 2017.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *