منصة قلب إفريقيا الإخبارية

سجلته بالفحم في الحيطان (1)

في الماضي كان (الشفع)، خاصة في سنوات المدرسة الأولى، مع تعلم الكتابة، وخلال الفترة العمريّة الممتدة بين الطفولة والمراهقة، يسجلون بالفحم في الحيطان إعجابهم بطفلة في أعمارهم بعبارة “أحب فلانة”. ولهذه الظاهرة أشار الشاعر الحلمنتيشي بقوله:

أحببتكم حباً تأجج ناره * سجلته بالفحم في الحيطان

ونزار قباني بطريقة أكثر تمدناً:

عـلّمني حـبـك أن أتصــرف كالصـبـيـان

أن أرسم وجهك بالطبشور على الجدران

وهو حب إفلاطوني من ذلك النوع الذي “يتخذ أشكالا فكرية وروحية، بعيدة عن تصورات الشهوة والانجذاب الجسدي”. وهو، أيضاً، حب عذري كذلك، لغياب (العوامل) التي تجعل منه حباً جسدياً شهوانياً! 

والحب العذري، كما هو معروف، منسوب إلى قبيلة بني عذرة التي كانت تسكن بلاد اليمن، وكانت تتميز بجمال نسائها وعفة رجالها.  ونشأ هذا النوع من الحب بعد تفرق أفرادها في البلاد الإسلامية. ويصوره العشاق بالحب القدري الأزلي. قال جميل بن معمر (جميل بثينة):  

تعلّق روحي روحها قبل خلقنا *  ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد

فـزاد  كـمـا زدنـا  فأصــبـح نامـياً *  وليس إذا متنا بمنتقض العهد

ولـكـنـه بـاقٍ عـلـى كـلّ حــادث *  وزائرنا فـي ظلمة القبر واللحد

وعودة على تسجيل الخواطر كتابة ورسماً على الجدران، لفت نظري كتابة البعض عبارات بخط عريض وجميل في الجدران التي تحيط بقضبان خطوط سكك حديد المواصلات في الغرب. وهو ما يسمى بفن “الجرافيتي” (Graffiti)، التي تجد تشجيعاً من بعض الجهات والمؤسسات لاستخدامها في التعبير عن مصالحها وقضاياها الاجتماعية والسياسية.

لكن هناك نوع قبيح من الكتابة، غالباً يكون في دورات المياه، أكرمكم الله، وفي الغالب الأعم يحوي عبارات فاضحة. قد تكون العبارات المكتوبة بالقرب من المقعد، مما يوحي بأن كاتبها كان (يقضى حاجة) في نفسه في نفس الوقت الذي كان فيه (يقضي حاجة) بيولوجية! وقد تكون بعيدة عن المقعد ومرتفعة نسبياً أو على باب الحمام، مما يوحي بأن صاحبنا من النوع الذي يلتفت إلى التعبير عما في نفسه بعد الفراغ من (الجهاد الأكبر). والمؤسف أن مثل هذه العبارات توجد في أماكن يفترض أن يكون مرتادوها من الصفوة ومن علية القوم، كقصور المؤتمرات (palais du congrès)، كما يطلق عليها. لكنهم ممن (قاموا بجهلهم). وما أكثرهم! ووجدت مؤخراً دراسة بعنوان “ظاهرة الكتابة على الجدران لدى طلاب جامعة الأزهر” أعدها الدكتور رجب محمد عبد الحسيب. وهي متاحة على الانترنت لمن أرادها.     

وهناك نوع من الكتابة (يمارسها) القائمون على أمر المؤسسة المعنية وأصحاب المحلات. وهذه تكون دائماً لتنبيه مستعملي الحمامات لضرورة الاهتمام بالنظافة ومراعاة المعايير الصحية، من شاكلة “الرجاء ترك المكان نظيفاً كما وجدته”، وغيرها. ومنها نوع طريف. فقد كتب أحد أصحاب المطاعم في المدينة التي أعيش فيها: “تبَوّل بفرح… تبَوّل بسعادة… لكن تبَوّل داخل الحوض”! وكتب أحدهم على لسان الحوض، بعد أن ضاق ذرعاً بإسراف الزبائن في استخدام أوراق التواليت: “مستحيل: ورقة، ورقتان، ثلاث، أربع! لقد اختنقت”. وكتب أخر، وقد ضاق ذرعاً بعدم اهتمام الزبائن بأمر النظافة: “إذا كنت ترى ما هو مكتوب هنا، فهذا يعني أنك ترى الحوض وأوراق التواليت وسلة المهملات”.

ومن طريف ما يروى في هذا الباب أن أحدهم قد ضجر من كثرة الكتابات على جدار بيته، فقام بدهان الجدار حتى يغطي العبارات المكتوبة. لكنه فوجئ، حين استيقظ في اليوم التالي، بأن أحدهم قد كتب بخط عريض على الجدار النظيف: ” مبروك الدهان الجديد”.

ويعزو العلماء هذه الظاهرة لأسباب اجتماعية وسياسية ونفسية تحول دون أن يجرؤ الفرد على التعبير عما بداخله بحرية في العلن. وقد تكون تعبيرا عن شعورٍ عدائي تجاه الدولة والمجتمع فيقوم الشخص بتخريب الممتلكات العامة، أو تجاه فئة بعينها أو شخص بعينه فيلجأ كاتبو هذه العبارات إلى تخريب الممتلكات الخاصة او كيل الشتائم وإلصاق الصفاتٍ المشينة بإنسانٍ ما. حفظنا الله وإياكم من شانئ لا يجرؤ على المواجهة مفضلاً إخراج ما في نفسه وجوفه في الخفاء!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *