منصة قلب إفريقيا الإخبارية

د . اشراقة مصطفى حامد تكتب .. كم مندي منسية في تواريخنا ؟

فيينا:قلب افري

الزمان بدايةُ السبعينات من القرن الماضي، كنت طفلة!
ذاكرة الأمكنة والإنسان… ذاكرة مندي.
الحكاية بدأت من انهمارات ذاكرة العم الزبير خميس منذ أن كنتُ طفلة شغوفة بحكاياته وقصصه التي شحذت خيالي الصغير. لم يفصل بين بيتهم وبيتنا سوى حائط صغير يمكن القفز عليه بسهولة لأجد نفسي بجسمي الصغير بالقرب من العم الزبير في انتظار حكاية اليوم .


حكى لي عن ( الجبال) وعن موطنه الأول ( أم حيطان). ضمنَ هذه الحكايات كانت الأميرة مندي بنت السلطان عجبنا. امرإة جامحةٌ خيولها التي كانت تركض في دروس المطالعة باحثة عن أثرها العظيم. مريم الشجاعة، والبنت الباسلة في تلك الدروس تبحثان عنها مثلما فعلت منذ تلك الأزمنة البعيدة. تعوّدتُ أن أجلس بجواره وأستمتع بحكاياته. وأجمل .

الحكايات كانت حين تزوره شقيقته العمّة كني محمّلة بكلّ مالذّ، وطاب. صور في جموح مندي تشكّلت خيالاتي، وصوري الذهنية عن امرأة سودانية جسورة غفل عنها تاريخنا مع (سبق الإصرار والترصّد) .


كنت أراها في وجوه نساء الحي، أراها محفّزة، وراسخة أقدامها على الأرض التي حاربتُ لأجلها. رأيتها قادمة نحوي حين رفعتُ قدمي الصغيرة لأضرب على الأرض في بدايات تعلّمي لرقصات الجبال التي تجيد الحكي، وتحفظ التاريخ كأعظم الكنوز. الكنز كان حديقة التنوّع التي تشكّل ( حرجلها) و ( قرضها) و ( محريبها) و ( كولها) في الحي الذي ترعرعتْ فيه ذاكرتي، وشغفي، وولعي بالحكايات.
كبرتُ وظلت مندي الأعظم في تلك التفاصيل
كبرتُ وعرفتُ ولم تكن المعرفة سوى شقاء العصف الذهني الذي تسبّب في صداعي المزمن مفجّراً الأسئلة القاسية .


مندي؟ لم أرها في كتب المدرسة الأوّلية ولا في التاريخ
لم أرها في التلفزيون ولم أسمعها تحكي في الإذاعة.
صنعتُ لها فضاءات في قلبي، وعقلي. ورافقتني خطوة بخطوة كما كان يفعل أخي في الرضاعة يوسف الزبير خميس له ولأبينا صاحب النطفة الأولى عن حكايات مندي للعم الزبير الرحمة .


كنتُ ملهوفة في كلّ يوم دراسي أن تطلبَ منّا المعلّمة أنْ نكتبَ في حصّة الإنشاء عن مندي… ومع أمنياتي كنْتُ أراها مبتسمة وتشرق تقاسيم وجهي ببذرة فكرتها: أنا بتاعة إنشاء؟
تبرعمتْ فكرتها وحبي لحصة الإنشاء ولكن سؤال مندي طوّقني ثم فكّ قيودي نحو براحات الفعل تميمتها … افعلي ما تؤمني به كوني ذاتك.
ابحث عن قصاصات كتبتها في بدايات ثمانينيات القرن الماضي وحرصتُ عليها كنزاً من تفاصيل الحياة التي مازالت تنبض بمندي… أوّل حكايات العم الزبير .


لم تغب عني… تصمت، ثم تنفجر مجدّداً نهراً صاخباً بالذكريات.
في العام 2011 سألني بعض من أحفادها في فيينا بشأن تسجيل منظمة يساعدون عبرها تلك الجبال…. هشّت مندي نحل أشجاري وقلتُ…. سمّوها مندي؛ منظمة مندي للتنمية وقد كان .
وظلّت مندي جرحاً ناتحاً في تاريخ السودان المغبّش للوعي.
ظلّتْ سؤال ( الجبال) عن الظلم، والتهميش، والحروب
ظلّتْ دواءاً لأسئلة الأمل لسودان تتصدّر مندي، وحكايتها، وحكايات آلاف النساء اللآتي تمّ غمرهنّ في غياهب النسيان.
ظلّت مندي سؤال الهويات.
ظلّت تلك ( الجنائين) التي شذبها العم الزبير، وتبرعمت، وفرهدت بسؤال إدارة التنوّع. .


مندي… يا أمّنا المنسيّة بصلف الأنظمة، واحتكار الاقتصاد، والتنمية… يا جمال افريقيا المغيّبة في المناهج، والإعلام، وأحاجي الطفولة.
لكلّ هذا لم يكن مولد ( فنون بنات مندي) صدفة…. وهل من صدفة لاتكن مندي مدبرتها؟
في الرابع من أكتوبر العام 2020 كانت أوّل حلقات فنون بنات مندي. Arts of Banat Mendy . وتطوّرت الفكرة تبلورت، وكسبت فضاءات من الأحلام، والمشاريع المشتركة. ليس من فكرة تنهض أشجارها، وتقفز سناجبها إنْ لم تجد السند وقد كان سندها الهميم الأستاذ أسامة إدريس فعليّاً بتبني تنفيذ حواراتها ( لايف) على أرض الواقع بكل أريحيّة العم الزبير .


سندها سؤال صديقتي شادية عبدالمنعم وهي تطلق ضحكتي عالية ذات صباح فييناوي بسؤالها: ( أنتِ يا إشراقة بتجيك الأفكار دي من وين….وسطع دخان أخضر يكمل السؤال) والتقت ضحكتها المتفائلة مع ضحكتي هناك في الجبال… ضحكات شقّت جبال الألب إلى جبال حمتْ مغاراتها أحفاد مندي من قسوة الحروب المدبّرة من الحكّام القساة.
بدأت مندي تشقّ طريقها
تشرق شموسها من فيينا برؤى عالمية
تجد السند من حفيداتها المؤمنات يتبرعم أشواك الفكرة، وأحفادها القابضين على جمر الريح .


مندي غرس العم الزبير في فيافي طفولتي
شجرة تكبر بخصوبة الأفكار التي لا تكفّ مستثمرة كلّ خبراتي في العمل العام في النمسا لتكون مندي نبعاً للصمود ، والجسارة وهي تحارب ضدّ المستعمر متحمّلة العطش ليكون لنا ماء من خلق الحياة… مندي تميمتي التي سأمضي بِها مطمئنّة نحو كلّ البيوت المنسيّة .


يوم أمس كان مفصليّاً وصوت مندي يهتف من حنجرة آخر حفيداتها لها طول العمر. لحظة فاض الدمع أنهاراً من الذاكرة وفاحت بهاراتها التي جلبتها العمّة كني لشقيقها.
بالأمس نهضتْ شجرة تبلّدي وخرجتُ للشارع وخطوات مندي ترافق خطواتي مهما تعثّر وتؤكّد لي أنّ العمل الجاد ينفع العالمين وما عداه يذهب جفاءاً .


مندي ليست سرّاً لنكتشفه اليوم
مندي فعل حقيقي سوف نغرس ثماره في كلّ العالم؛ رمزا لكل النساء المنسيات في التاريخ الرسمي.
سننهض معاً حفيداتها، وأحفادها نحو الإنسان، والإنسانيّة

ومعاً نكتب تاريخها … تاريخنا الذي يليق بتنوّع تلك البلاد.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *