منصة قلب إفريقيا الإخبارية

لوغا يا كيسواهيلي

المعز محمد الحسن

ذهبت لشراء بعض السكر من متجر قريب من المكتب في نيروبي. وهو مكتب اعتدت أن أشتري منه “عدة الشغل” من شاي وسكر وبن. صاحبته سيدة كينية أتحدث معها باللغة الإنجليزية في العادة. إلا أنني فاجأتها في تلك المرة وقلت لها بالسواحيلي: ” تفاذالي ناهيتاجي نوسو كيلو يا سوكاري”. ضحكت وسألتني بدهشة كيف تعلمت اللغة السواحلية بهذا السرعة. قلت لها حسناً سوف أعيد هذه الجملة باللغة العربية: ” لو تفضلت (ي) أحتاج نصف كيلو سكر”. زادت دهشتها وصاحت: “What !!!”. فهي مثل كثير من الكينيين تجهل أن ثلث مفردات لغتهم هي مفردات عربية، فهم يستخدمونها باعتبارها مفردات سواحيلية بل أن أغلبهم لا يعرفون أن كلمة سواحيلي هي كلمة عربية والمقصود بها لغة السواحل لاستخدامها في سواحل شرق إفريقيا.

وتعود نشأة اللغة السواحيلية إلى عهد المستوطنات العمانية في القرن السابع عشر الذي شهد نشاطاً تجارياً كبيراً بين جزيرة العرب وسواحل شرق إفريقيا، خصوصاً تنزانيا وجزيرة زنجبار أو زنزبار. ونشأت السواحيلية كلغة تفاهم هجين (Lingua franca) بين اللغة العربية التي يتحدثها التجار والمستوطنين العمانيين ولغات البانتو المنتشرة في شرق وجنوب إفريقيا. ولم يقتصر هذا الهجين على اللغة بل نجده في سحنات السكان في زنزبار وأزياءهم وعاداتهم وأنماطهم الموسيقية. وزنزبار كانت بؤرة هذا التلاقح الثقافي فهذه الجزيرة كانت المركز الذي سيطر منه سلاطين “الإمبراطورية” العمانية على الساحل الشرقي لإفريقيا بعد أن هزموا البرتغاليين وطردوهم من عمان ومن الساحل الشرقي الأفريقي الذي خضع لسيطرتهم على مدى قرن كامل.

ولإدراك حجم التأثير العربي، يكفي أن نعرف أنه في الفترة بين 1831 و1840، قام السلطان سعيد بن سلطان بنقل عاصمة سلطنة عمان من مسقط إلى زنزبار في المنطقة المعروفة حالياً بالمدينة الحجرية أو ستون تاون وهي موجودة حتى اليوم ببيوتها ذات الطراز الفريد وشوارعها الضيقة المتعرجة التي تشكل متاهة حقيقية ما أن تدخلها حتى تختلط عليك الاتجاهات وتتعطل بوصلة سيرك. وهي من المعالم المهمة التي يحرص السياح القادمون إلى الجزيرة على زيارتها والاستمتاع بمشاهدة مبانيها القديمة وبواباتها التي تتميز بضخامتها وزخرفتها. ظلت زنزبار تحت حكم سلاطين عمان الذين امتد نفوذهم حتى جنوب باكستان، إلى أن قامت ثورة زنزبار في 1963، وانتهت بطرد آخر الحكام العمانيين في 1964. وعلى خلاف دول ساحل شرق أفريقيا الأخرى، التي اقتصر فيها التأثير العربي على الجانب اللغوي، فإن زنزبار احتفظت بالأثر العربي كعنصر أصيل في هويتها ومكون هام للوجدان الثقافي العميق لسكانها. لذلك فإن كل الناطقين باللغة السواحيلية يتفقون على المكانة المرجعية للغة السواحيلية المستخدمة في زنزبار ويعتبرونها اللغة “القياسية” أو “الفصحى” إن جاز التعبيران.

اللغة السواحيلية، مثلها مثل أي لغة أخرى، تطورت في اتجاهات مختلفة في الدول الناطقة بها وتمازجت مع المكونات اللغوية المحلية الخاصة بكل دولة منها. ففي كينيا على سبيل المثال نجد أن اللغة الإنجليزية هي التيار اللغوي الأكثر تأثيراً عل مسار تطور اللغة السواحيلية المحلية التي أصبحت، بالإضافة إلى ذلك، تتجه نحو التبسيط والتخلص من القواعد اللغوية المعقدة. وقد اعتمدت كينيا اللغة الإنجليزية كلغة رسمية أولى والسواحيلية كلغة رسمية ثانية. لذلك لا يجد الأجنبي المقيم في كينيا أي صعوبة في التعامل حيث الكل يتحدث الإنجليزية على عكس جزيرة زنزبار التي تقتصر معرفة اللغة الإنجليزية فيها في الغالب على الطبقة المتعلمة من السكان. وأذكر أن متسولاً استوقفني في نيروبي قائلاً:

« Please sir, would you be kind enough to help me get out from the bottom »

ومع ذلك فإن الكينيين يكنون تقديراً خاصاً للأجنبي الذي يتحدث اللغة السواحلية ويتعاملون معه بشكل أكثر لطفاً وعفوية.

تعلم اللغة السواحيلية أسهل بالنسبة للناطقين بالعربية خصوصاً إن أراد الشخص تعلم النسخة العامية المستخدمة في الحياة اليومية. أما تعلم اللغة المكتوبة بقواعدها النحوية الصحيحة فتلك قصة أخرى وأمر يحتاج لمجهود كبير ودراسة منهجية. والسبب الأساسي في ذلك هو أن الأسماء في اللغة السواحيلية تصنف لمجموعات حسب بادئة الإسم. ويصل عدد هذه المجموعات إلى ثمانية عشر مجموعة. تكمن الصعوبة في أن الكثير من العناصر مثل أدوات الملكية وقواعد الجمع تختلف من مجموعة لأخرى. فإذا أخذنا مثلاً كلمة “إسم” وتعني بالسواحيلية “جينا” وهي تنتمي لمجموعة تسمى مجموعة جي، ونسبناها للمتكلم الفرد نحصل على الجملة “جينا لانقو” أي “إسمي”. إما إذا استبدلنا كلمة “جنينا” بكلمة “كيتابو” وتعني كتاب ونسبناها للمتكلم الفرد تصبح الجملة “كيتابو تشانغو” أي كتابي، لأن كيتابو تقع في مجموعة أخرى. وهكذا تتنوع هذه الأداة وتأخذ أشكالاً مختلفة “لانقو”… “يانقو”… تشانقو”… “زانقو”… “كوانقو”… “بانقو”، “موانقو”… فهذه سبع كلمات كلها تعني كلمة « my » بالإنجليزية. وكل واحدة لديها تصريف مختلف مع المتكلم الجمع والمخاطب المفرد والمخاطب الجمع إلخ. ومثال آخر أداة النسب « Of » باللغة الإنجليزية. فإذا أردنا أن نقول جمهورية كينيا نقول “جمهورية يا كينيا”. و”يا” هنا هي أداة النسب. أما إذا نسبنا كينيا إلى كلمة “أوبالوزي” وتعني سفارة تصبح الجملة “أوبالوزي زا كينيا” أي سفارة كينيا. والسبب أن “جمهورية”و “أوبالوزي” تنتميان لجموعتين مختلفتين. وهكذا تختلف أداة النسب (Of) باختلاف الإسم المنسوب فتكون “زا”…”يا”…”وا”…”لا”… “تشا”..

من الأشياء الفريدة أيضاً في اللغة السواحيلية تسمية الساعة إذ يبدأ حساب الوقت بعد شروق الشمس. فإذا كانت الساعة السابعة صباحاً وسألت شخص سواحيلي كم الساعة سيجيبك أنها الساعة الواحدة صباحاً. والساعة الثامنة عندهم هي الساعة الثانية صباحا ومنتصف اليوم هو الساعة السادسة مساء وتسمى عندهم الثانية عشر بعدها الواحدة مساءً أي السابعة مساءً عندنا وهكذا.

هذا التفرد يجعل من دراسة اللغة السواحيلية تحد ذهني وتجربة لغوية متفردة فضلاً عن الفائدة العملية من تعلمها فهي اللغة الأكثر انتشاراً في أفريقيا وتعتبر ضمن العشر لغات الأكثر انتشاراً في العالم.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *