منصة قلب إفريقيا الإخبارية

قراءة في رواية “النباتية” للأَدِيبة هان كانغ الفائزة بنوبل

كتب :ياسر عبدالله ادم

كانت الساعة الرابعة وبضعة دقائق من مساء الخميس الموافق 10 أكتوبر، في يوم هادئ يحمل في طياته شيئًا من الجمال والهدوء. حينها كنت قد انتهيت لتوي من قراءة كتاب “الماركسية السوداء” للكاتب والمنظر السياسي سيدريك جي روبنسون، وكنت أتهيأ لكتابة ملاحظاتي وتفاصيل قراءتي لهذا الكتاب في مفكرتي. وكعادتي، بعد أن أنتهي من الكتابة، أكون مستعدًا لقراءة الكتاب الذي يليه وفقًا للترتيب المحدد مسبقًا في قائمتي الشهرية.

الكتاب الذي كان ينتظرني، وأنا بانتظاره بلهفة واضحة، هو كتاب “الإنسان القانوني: بحث في وظيفة القانون الأنثروبولوجيّة” للباحث والعالِم القانوني الفرنسي الان سوبيو. أحضرت المفكرة والقلم، ولكن قبل أن أبدأ الكتابة، اجتاحني شغف مفاجئ بإعداد فنجان قهوتي كما أحبها دائمًا. توجهت إلى المطبخ، وبعد أن وضعت القهوة على النار، أخذت أتصفح قليلاً مواقع التواصل الاجتماعي.

خلال تصفحي على منصة فيسبوك، صادفت عدة منشورات من صفحات إخبارية وصفحات بعض الأصدقاء تتحدث عن الفائز بجائزة نوبل للأدب لهذا العام. من بين تلك الصفحات، لفتت نظري صفحة الأستاذ عبدالغني كرم الله، حيث تحدث بحب واضح عن الأدب الكوري. ما كتبه دفعني للتفكير في هذا الأدب الذي طالما سمعت عنه ولم أستكشفه بعمق بعد. في البوست، أشار عبدالغني إلى حصول الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ على جائزة نوبل للأدب لعام 2024.

وما أن انتهيت من إعداد القهوة وعدت إلى الغرفة، مستعدًا للكتابة والتحضير لقراءة الكتاب التالي في صباح الجمعة، حتى وجدت نفسي فجأة أنجذب لتحميل رواية “النباتية” الفائزة بجائزة نوبل. لم أتمالك نفسي من الشغف، فبدأت على الفور بقراءتها، وكرّست الأيام الماضية للغوص في تفاصيل الرواية وكتابتها بلهفة شديدة.

بعد الانتهاء من القراءة، قلت لنفسي: “أحيانًا، يكون التمرد على بعض القواعد أمرًا ضروريًا، بل وواجبًا، حين نشعر بتلك الرغبة الجارفة في التغيير.” لم أكن مخطئًا حين تجاوزت الكتابة التي خططت لها والكتاب الذي كان يفترض أن أقرأه، لأضع رواية “النباتية” على رأس قائمة جديدة لم أكن قد أعددتها أصلاً. كان هذا تمردًا، لكني شعرت أنه تمرد جميل، فروحي النقدية كانت تؤمن بضرورة هذه الرواية وجمالها الذي لا يمكن إغفاله.

خلال القراءة، وجدت أن هان كانغ نجحت بمهارة في تجسيد صورة مصغرة للمجتمع والتاريخ، وأخذتني إلى عمق المطبخ الكوري، حتى شعرت بالجوع وأنا أتخيل آنية المشهيات ورائحة الأطعمة. كنت حاضراً بالكامل، أغوص في تفاصيل الرواية وكأنني أعيش داخلها. شعرت حينها كأنني أقرأ لسكولاستيك موكاسونغا الرواندية أو تشيماماندا نغوزي أديتشي النيجيرية، فكان ذلك التمرد الأدبي مغامرة من الطراز الرفيع، تستحق كل لحظة قضاها العقل والروح في رحاب “النباتية.”

تعتبر رواية النباتية للكاتبة الكورية هان كانغ، من الأعمال الأدبية التي تتجاوز مجرد السرد العادي لتلامس موضوعات عميقة تتعلق بالهوية، الجسد، والاغتراب الاجتماعي. هذه الرواية، التي تبدو في ظاهرها سردًا عن امتناع شخصية يونغ هي عن تناول اللحوم، تُظهر في عمقها حالة من التمرد الداخلي على العادات والتقاليد الاجتماعية، وعلى القيود التي تفرضها هذه المجتمعات على الأفراد.

الرمزية والتعبير عن الذات:

تتجلى براعة الكاتبة في تقديم موضوع النباتية ليس كخيار غذائي بسيط، بل كرمز للتمرد والتحرر. يونغ هي لا ترفض أكل اللحوم فحسب، بل ترفض أيضًا النظام الاجتماعي والأسري الذي يحاول تقييدها وإخضاعها. إن اختيارها الامتناع عن اللحوم يترافق مع أحلامها المتكررة التي تُمثّل رمزًا قويًا لتجربتها النفسية. الحلم الذي يتكرر في الرواية يشير إلى رؤيتها للحيوات التي التهمتها وهي تتراكم داخل جسدها، مما يجعلها تشعر بالاختناق النفسي والجسدي، ليصبح الامتناع عن اللحم ليس قرارًا غذائيًا بل محاولة لاستعادة نقائها الجسدي والروحي.

هذا البعد الرمزي يظهر بوضوح في جمل مثل: “الدم واللحم يُهضمان، يتوزّعان في زوايا الجسد الأربع، لكن الحيوات بقيت متشبثةً بمعدتي بوحشية”. هنا نرى كيف تحوّل الكاتبة فعل الأكل إلى فعل من الأفعال التي تُثقل الروح.

الاغتراب والقمع:

الرواية لا تتناول فقط علاقة يونغ هي بجسدها، بل تطرح تساؤلات أعمق عن العلاقات الاجتماعية والسلطة. يونغ هي تغدو غريبة عن زوجها وعائلتها لأنها رفضت الامتثال. وهذه الغرابة هي ما يبرر للعائلة ممارسة القمع عليها، حيث يصفها زوجها بأنها “أختا أو عاملة منزلية”. لا ينظر إليها بوصفها فردًا متكاملاً بل بوصفها موضوعًا، وهو ما يتفاقم عندما تصبح موضوعًا للشهوة الجنسية لدى زوج أختها الذي يحول جسدها إلى “عمل فني”.

هذا التجريد من الإنسانية يصل إلى ذروته عندما تقرر يونغ هي التحول إلى شجرة. في هذا الفعل النهائي، نجد رغبة قوية في التخلص من القيود الجسدية والاجتماعية والتحول إلى كيان طبيعي، إلى نبتة تتغذى من الشمس والماء فقط، غير خاضعة لقوانين البشر.

الدلالات النفسية والاجتماعية:

الرواية تستكشف أيضاً العلاقة بين الجسد والهوية النفسية، فرفض يونغ هي للطعام يمثل رمزاً لإعادة صياغة هويتها الخاصة. وهو ما ينعكس في التحليل النفسي للشخصية التي تعاني من أزمة وجودية عميقة؛ فهي لم تعد ترى جسدها كما يراه المجتمع. في لحظة من الرواية، تقف يونغ هي عارية تحت الشمس، محاولة أن تتماهى مع الطبيعة وتقوم بعملية البناء الضوئي. هذه اللحظة تعكس محاولتها النهائية للتحرر من الجسد البشري وتحقيق تطور جديد، في رغبتها بأن تصبح شجرة.

يمكن فهم تدهور علاقات يونغ هي مع عائلتها وزوجها كنتيجة لتحديها القوالب التقليدية للعلاقات الاجتماعية. إنها ترفض أن تكون مجرد زوجة أو ابنة أو حتى كائنًا بشريًا بالمعنى الذي يفرضه عليها المجتمع، مما يجعل من نظامها النباتي رمزًا للاختلاف في السلوك والتفكير، ورمزًا للحرية الفردية.

يجدر بي أن أذكر ان فوز الكاتبة الكورية الجنوبية، هان كانغ، بجائزة نوبل في الأدب لعام 2024، بفضل أسلوبها الشعري العميق والمكثف، الذي يواجه صدمات التاريخ، ويجلي هشاشة الحياة البشرية. وقد أشادت الأكاديمية السويدية بقدرتها الفريدة على تجديد النثر المعاصر، عبر وعيها المرهف بعلاقات الجسد والروح، وبالترابط الخفي بين عالم الأحياء وعالم الموتى.

أدعوكم لاستكشاف جميع أعمال هان كانغ، وفي مقدمتها رواية “النباتية”، التي تحمل في طياتها أسئلة معقدة حول الحرية والتمرد، وعلاقة الإنسان بالطبيعة. من خلال الرمزية المبهرة والغموض الذي يسري كنسيم خفي في صفحاتها، تقودنا هان كانغ إلى إعادة النظر في قدرتنا على التحكم بأجسادنا ومصائرنا، وسط نظام اجتماعي يرفض التمرد ويسحق الاختلاف.

أتمنى لكم قراءة تحمل معها لذة الاكتشاف والتأمل.  

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *