منصة قلب إفريقيا الإخبارية

قراءة في رواية “فاتنة القرية” للكاتب الروائي أمين صابر

ياسر عبدالله ادم

قبل الحديث عن الرواية، لابد من الوقوف قليلاً عند الشاب الطموح والموسوعي أمين صابر، الذي استطاع أن يميز نفسه بأسلوبه اللغوي الفريد وحبكته المتقنة ومخيلته العبقرية، وهو ما يظهر جلياً في أعماله الثلاثة: أوركا، واحة أشجان، و*فاتنة القرية*.

ياسر عبدالله

هذه الأعمال الأدبية المميزة تتناول قضايا متشابكة من خلال شخصيات متنوعة تمثل مختلف شرائح المجتمع، مما يجعل من روايته سيمفونية سردية متكاملة. تلك السيمفونية تحمل في طياتها أصداء الإنسانية بكل ما فيها من معاناة.

من الجدير بالذكر أن هذه الرواية وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة كنفاني 2024، وهي الرواية السودانية الوحيدة التي شاركت في هذه القائمة بين الأعمال الحديثة في الساحة الأدبية السودانية.

وقبل عدة أشهر، تشرفت بلقاء هذا الكاتب المبدع، حيث خضنا نقاشاً مطولاً حول ما تعانيه الساحة الأدبية بشكل عام، وعن أزمة النقد الأدبي بشكل خاص.

أمين صابر هو واحد من الروائيين الشباب القلائل الذين يتمتعون بإلمام واسع في مجالات متعددة، وهذا هو النموذج الذي أطمح أن أراه في كتابنا الشباب الصاعدين.

رواية “فاتنة القرية” هي لوحة سردية متشابكة تنبض بالحياة والتفاصيل الدقيقة التي تعكس واقع مجتمع قروي تقليدي يحاصر أفراده القمع والعادات المتوارثة.

 تأخذنا الرواية إلى قرية “عيال جبل قاسم”، حيث يرسم الكاتب عالماً مليئاً بالتناقضات الثقافية والاجتماعية، يُصور فيه الاضطهاد والعنصرية والتهميش في حيوات النساء والمهمشين.

تتجلى الرواية حول محورين أساسيين: قصة ضي المدينة وابنتها أثير اللتين تعيشان حياة من المعاناة، والألم والاضطهاد بسبب أصولهما المنحدرة من الرقيق، إلى جانب ولادة أثير بصفة جنسية مزدوجة، مما يفاقم من عزلهما المجتمعي.

 يمثل هذا الجزء من الرواية جوهر التأمل الاجتماعي للكاتب في قضايا الجندرة والهوية الجنسية.

 أمين يتناول بجرأة موضوعاً شائكاً نادراً ما يتم تسليط الضوء عليه، وهو قضية الخنثى وما يصاحبها من نظرة مجتمعية قاسية، تتسم بالتحيز والجهل.

في حين تبدأ الرواية بالتركيز على معاناة ضي المدينة وأصولها، إلا أنها تنتقل بشكل تدريجي ومثير إلى محور جديد يتمحور حول أثير التي تعيش في عزلة، تكابد الحزن والخوف من اكتشاف سرها، وتحاول بشتى الطرق التعايش مع واقعها المؤلم.

تكشف الرواية لنا عن هذا المجتمع المليء بالجهل والقسوة، حيث يتعرض المختلفون للاضطهاد والنبذ، ويتضح أن معركة أثير ليست فقط مع جسدها، بل مع  كل الأعراف التي تجبرها على الاختباء والصمت.

يُحسن أمين نسج هذه التيمات الشائكة مع قضايا أخرى تُعنى بالمجتمع الريفي المحيط. من خلال شخصية المر الشقي، نرى كيف تتفرع الرواية إلى استكشاف تناقضات أخرى، كالعنف، الجريمة، الحب، وتضارب المصالح داخل المجتمع.

السرد في الرواية يتسم بالعمق والثراء، حيث يتدفق الحكي بتفاصيل غنية تصور الحياة القروية في أبعادها الاجتماعية والثقافية. يعرض الكاتب تفاصيل دقيقة حول الطقوس المجتمعية المختلفة مثل الولادة، الختان، والزواج، بالإضافة إلى مشاهد من الأحزان والمآسي التي تمر بها الشخصيات.

 هذه التفاصيل تغلف النص وتجعله يحاكي صورة متكاملة عن الحياة في تلك البيئة المنعزلة جغرافياً والمغلقة فكرياً.  يلعب الحوار دوراً محدوداً في الرواية، حيث يعتمد الكاتب على الوصف الدقيق والسرد المتدفق بدلاً من تبادل الأحاديث الطويلة بين الشخصيات. ويستخدم أمين مزيجاً من اللغة العربية الفُصْحَى الممزوجة ببعض من العامية السودانية، مما يضفي على النص أصالة وشعوراً بالتواصل مع البيئة المحلية. أما المواضيع فتتناول قضايا متعددة مثل الاستغلال الطبقي والاضطهاد الاجتماعي، والاغتراب الجنسي، مما يجعل الرواية تمثل مرآة تعكس الأزمات المتعددة التي تعيشها شخصياتها.

 يظهر المجتمع هنا في حالة تنافر دائمة، فبينما تُبنى الرواية على قضية أثير وسرها الجسدي، إلا أن الحكايات تتشعب لتشمل قضايا أوسع، مثل الصراعات، جرائم القتل، والاختلافات الثقافية بين سكان المنطقة.

 من خلال استخدام تقنية السرد المتشابك، ينجح الكاتب في تقديم رؤية بانورامية لمجتمع مليء بالتعقيدات، حيث تمتزج حياة الشخصيات وتتصادم، مما ينتج سرداً معقداً يعكس طبيعة الحياة الواقعية.

وبينما قد تبدو الرواية في ظاهرها مشبعة بالتفاصيل، إلا أن القارئ يدرك تدريجياً أن هذه التفاصيل ليست عبثية، بل تسهم في بناء لوحة متكاملة.

اطلعت على كل أعماله، ولكن هذا العمل الذي يقارب المئتين إلا صفحتين قرأته أكثر من ست مرات بين فترات متباعدة وطويلة جداً، لأنني أعجبت به وعلمت ما في باطنه. عند أول قراءة له، عرفت أن هذا العمل كان غنياً، فلا بد لي من التنقيب جيداً مراراً وتكراراً، كما كنت أنقب أثناء عملي في مناجم الذهب لنتمكن من الحصول على الذهب الخالص .

 لأن الأعمال الأدبية الغنية من الصعب أن تُفكك نصوصها عند القراءة الأولى، حتى أقدم عنه هذه القراءة الممتعة كي لا أجحف في حقه. من لم يطلع على هذا العمل، أتمنى أن يحالفه الحظ للغوص في صفحاته .

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *