منصة قلب إفريقيا الإخبارية

 ياسر عبدالله ادم يكتب .. قصتي مع سِفر “روح القوانين” لشارل لوي دي سيكوندا (مونتسكيو)

بورتسودان :قلب افريقيا

الكتاب الذي بات رفيقي الوفي، أشد قربًا إلي من ظلي، وذلك بفضل جلسة مسائية بهية بضواحي أسوان، كنت برفقة مولانا عبدالحكيم (كيغالي)، والحليف الرفيق مصعب (انتمولجي إرهاصات )، منتصف مارس عام 2021م.

بعد قضاء شهرٍ وبضعة أيام في مناجم الذهب بأسوان، كُلفتُ من قبل أعضاء “الكَلة” بالذهاب إلى المدينة لطحن عرق الذهب المستخرج مع باقي المعادن لاستخلاصه. وبعد أن أُنجز مهمتي أقضي بعض الشؤون الشخصية، لأعد نفسي للعودة إلى المنجم محملاً بالإمدادات الغذائية والمياه، وبصحبتي عدد من الروايات والكتب الفلسفية والسياسية والفكرية.

ياسر عبدالله

وبحسب قانون “الكَلة”، يُشترط علينا إحضار الكتب إلى جانب الإمدادات التموينية، ولا يُسمح بنسيان الكتب مهما كانت الظروف، إذ يعتبر القانون ذلك أمراً ضرورياً لا يُغتفر الإخلال به. فالصحراء الجرداء والفيافي القاسية التي نعيش فيها تجعلنا نغوص في أعماق الكتب كما نحفر عند كل دوام في باطن الأرض بحثًا عن الذهب.

وصلت إلى مدينة أسوان، ملامحي تشي برجل قادم من عمق الكهوف، حيث كان الغبار يعانقني أكثر من حبيبتي. وبعد الانتهاء من الغرض الذي أتيت من أجله، توجهت إلى مكان إقامتي لأخذ قسط من الراحة، ومن ثم أعد نفسي للذهاب إلى الجمبة المفضلة لاستنشاق أجواء المدينة، لأستعيد ذكريات الأمسيات التي كنا نقضيها في شارع النيل وتوتي وحوش النيلين وقهاوي سوق ليبيا والسوق العربي بالعاصمة المثلثة.

توجهت إلى الجمبة وبرفقتي حليفي و رفيقي الدائم، مصعب (انتمولجي إرهاصات)، للقاء الرفيق مولانا عبدالحكيم (كيغالي)، لنحتسي القهوة ونتبادل أطراف الحديث في بعض الشؤون وقضايا الراهن، ما أن وصلت الأبنوسة توتة بالجبنة (القهوة) المميزة والبخور الفواح حتى بدأنا في تفقد أحوال بعضنا البعض، وسرعان ما وجدنا أنفسنا نتحدث عن سِفر “روح القوانين” للفيلسوف مونتسكيو، الفيلسوف الذي كرس حياته لخلق حياة كريمة للشعب الفرنسي بعد معاناته الطويلة من الظلم والاستبداد. ناقشنا أقسام الكتاب، وكان لكل منا رأي رصين حول موضوعاته المتعددة، وقد أثرى الحوار أفكاري، وفتحت لي آفاقًا جديدة في فهم سِفر “روح القوانين”. ورغم صحبتي الدائم لهذا الكتاب منذ عام 2018م، إلا أنني لم أهتم به بنفس الأهمية التي زادت بعد تلك الجلسة الحوارية التي ناقشنا فيها هذا السِفر دون ترتيب مسبق.

ومن خلال تنقيبي المتأني في عصر النهضة الأوروبية عبر القراءة والدراسة الدقيقة، لم أجد أحداً من علماء القانون تناول الموضوعات بالدقة والشفافية والجرأة التي تميز بها مونتسكيو في هذا السِفر “روح القوانين”، الذي تناول فيه بحوثاً موسعة في الفقه الدستوري وهو المجال الذي يأسر جلّ اهتمامي ويحتل معظم وقتي، وعلم الاجتماع والقانون، ففي هذا العمل الجبار، الذي استغرق أكثر من عشرين عاماً من البحث والتأليف، قام بتحليل أنواع الأنظمة الحاكمة، مثل النظام الملكي، الديكتاتوري، والجمهوري، مُسلطاً الضوء على خصائص كل منها وأثرها على حياة المجتمعات.

وأكد بشكل خاص على أهمية فصل السلطات الثلاث: التنفيذية، التشريعية، والقضائية، مشيراً إلى أن التوازن بين هذه السلطات هو الضامن الأساسي لاستقرار النظام السياسي وحماية الحريات العامة، حيث يمنع تركز السلطة في جهة واحدة من الانزلاق نحو الطغيان أو الاستبداد. ويوضح العلاقة المتبادلة بين القوانين والبيئة الاجتماعية والسياسية لكل دولة. تطرق أيضاً إلى العوامل التي تؤثر في صياغة القوانين، مثل الدين، المناخ، الاقتصاد، وتقاليد الشعوب، مشيراً إلى أن القوانين يجب أن تكون متماشية مع هذه العوامل حتى تكون عادلة ومستدامة. وكان لهذا السِفر الذي يُتعبر تحفةً فكرية في دارسة الأنظمة السياسية ومبادئ التشريع، تأثير بالغ في صياغة تشريعات العالم، لا سيما الدستور الأمريكي الذي تبنى بشكل واضح مبدأ فصل السلطات.

وكما هي عادتي، حين يأسرني كتاب بين طياته، أشيد به وأحث على اقتنائه وقراءته بمختلف الطرق، لأن قراءة عمل عظيم كهذا تُحدث تغييرًا جوهريًا في الإنسان، في تفكيره وتعامله مع الأزمات، وتضيف إليه الكثير.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *