منصة قلب إفريقيا الإخبارية

قراءتي لرواية “نوتردام النيل” للكاتبة الرواندية سكولاستيك موكاسونجا

كتب :ياسر عبدالله ادم

في رحلتي المستمرة عبر دروب الأدب الأفريقي، وجدت نفسي منذ فترة بين دفتي مجموعة من الكتب التي أرسلتها لي زميلتي من القاهرة، التي تعرفت عليها خلال ورشة عمل قانونية. حزمة من الكتب تتضمن أعمالًا لكاتبات وروائيات أفريقيات مبدعات، كثير منهن منسيات، وأعمالهن تغرق في ظلال التجاهل، رغم ما يحمله كل كتاب من قوة ورؤية وإبداع. من بين هذه الروائيات العظيمة، اكتشفت الأديبة الرواندية سكولاستيك موكاسونجا، التي أبدعت في عملها الفذ “نوتردام النيل”.

في “نوتردام النيل”، نجد أنفسنا في الليسيه وهي مدرسة للبنات، حيث تنمو التوترات تحت السطح، تظهر في الابتسامات المصطنعة والكلمات المكبوتة. تسعى المدرسة إلى تشكيل “النخبة” النسوية المستقبلية لرواندا، إلا أن الواقع القاسي يشوه هذه الرؤية. نجد في المدرسة فتيات من الهوتو، وعدد محدود جدًا من التوتسي، مما يعكس التباين الاجتماعي والسياسي الكبير في البلاد.

تتبنى موكاسونجا سردًا عليمًا يمكّنها من معالجة أدوار كافة الشخصيات في المدرسة من الطالبات والمدرسين إلى الأب والقس المقيم، إلى الأم الرئيسة، وأيضًا جميع من له صلة بهذا المجتمع الصغير، ما يجعلها ترسم أنطولوجيا كاملة لذاكرة رواندا الجماعية في فترة حساسة. ورغم أن الرواية ذات صفحات محدودة، فإنها تزخر بقدرة عالية على الوصف الدقيق والشعري، مقدمة لنا لوحة جدارية ضخمة تضم الشخصيات المتنوعة والعادات والتقاليد والأساطير الافريقية.

لقد نجحت سكولاستيك بمهارة في كشف خبايا المجتمع الرواندي. الأم الرئيسة تتظاهر بالصلاح بينما تغض النظر عن سلوكيات السفير، وكذلك القس الذي يستغل سلطته لعلاقات محرمة، بينما يُظهِر المدرسون الفرنسيون والبلجيكيون تهاونًا واضحًا إزاء كل ذلك لضمان استمرار الروابط القائمة بينهم وبين السلطة. تنتقد الرواية بشكل صريح فساد السلطة العسكرية، التي تستخدم نفوذها لإفادة بناتها وإحاطتهن بحماية مطلقة.

الرواية تعكس تراث رواندا بامتزاج بين النوستالجيا والاحترام العميق للأساطير، بعيدًا عن سخرية الحداثة أو التعالي على الموروث. نجد فيها أسطورة إيزيس، وكانداس، وأصول التوتسي، وصانعة المطر، والسحرة والمشعوذين، وتحيي روح الأسلاف بطريقة مبدعة ومشاهدية مبهرة تجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش تلك الأحداث والتقاليد. الحياة في المدرسة كانت صارمة لأنها تهدف إلى تكوين “نخبة” نسوية للمستقبل، فالفتيات لسن مجرد زوجات أو أمهات صالحات، بل أيضًا مواطنات صالحات وملتزمات، فالمدرسة تدمج الدين والدولة في بوتقة واحدة لتشكيل تلك النخبة.

لكن الرواية تتجاوز هذه السطحية الظاهرة وتكشف كيف أن هذه الصرامة والتربية الصارمة لا تمنع الفتيات من صنع قوانينهن الخاصة. نرى فتاة تدخل خطيبها إلى المدرسة، وتحمل منه. نجد أخرى تقود حملة تستهدف التوتسي، مُشكِّلةً مجموعة من الشباب تُعرف بـ “الشبيبة”، تستهدف بشكل خاص الفتيات التوتسي الموجودات في المدرسة. هذه الفوضى تكشف عجز الأم الرئيسة، والمدرسين، وحتى الرمز الديني نوتردام النيل عن فرض النظام أو الحفاظ على القيم التي تأسست عليها المدرسة. بل إن تمثال نوتردام ذاته يتحطم، ويتحول إلى رمز لعجز الدين أمام واقع مأساوي قاسٍ؛ بل وسلطة الله نفسها تبدو عاجزة أو غائبة، إذ صارت رواندا “مملكة الموت لا مملكة الرب”، كما يُذكر في نهاية الرواية.

في هذا السياق، تُبرز سكولاستيك بأسلوب شعري متقن حجم المأساة الرواندية، وكيف تسرّب الموت إلى روح المجتمع وأطاح بكل ما هو مقدس، جاعلاً من رواندا ساحة للفوضى والموت. بعبارة عميقة ومؤثرة، تروي إحداهن: “رواندا، إنها بلد الموت. طوال اليوم، يجوب الله العالم، كل مساء، يعود إلى بلده، يعود إلى منزله في رواندا. حسنًا، فيما كان الله يتجول، استولى الموت على مكانه، عندما عاد، صفق الباب في أنفه. أقام الموت مملكته فوق بلدنا رواندا المسكين”. بهذا السرد، نجحت سكولاستيك في تصوير عمق المأساة الرواندية، وفي نسج خيوط الألم والغضب، لتقدم لنا لوحة أدبية تفيض بالحقيقة المرة.

ياسر عبدالله

نبذة عن الأديبة الكبيرة موكاسونجا

وسط جبال رواندا المورقة، وعبق الزهور البرية التي تملأ الهواء، نشأت موكاسونجا في عالم عاصف من الألم والجمال. ولدت عام 1956، وفي أعوام طفولتها، عرفت معنى الترحيل والاغتراب حين أُجبرت عائلتها على الانتقال إلى نياماتا، منطقة غير آمنة، حيث بدأت فصول من معاناة طويلة. طُردت من المدرسة عام 1973، ونفيت إلى بوروندي، قبل أن تجد أخيرًا استقرارها في فرنسا عام 1992، قُبيل عامين من تلك المجزرة المرعبة التي خطفت أرواح الملايين من شعبها التوتسي.

دخلت موكاسونجا عالم الكتابة بعد مرور اثني عشر عامًا على المجزرة، حاملة إرث الألم والذاكرة، وصاغت “النيانزي أو الصراصير” كسيرة ذاتية تروي من خلالها حكايات الحياة والموت، الأمل والخراب. في عام 2008، نشرت “امرأة عارية القدمين”، تكريمًا لأمها ولكل الأمهات الشجاعات، وقد نالت به جائزة ضد التمييز العنصري. وفي “البطن النهم”، تأخذنا بين صفحاتها إلى رواندا حيث كل صفحة هي أفق جديد من الألوان والزهور، وحيث يلتقي الجمال بقسوة الإنسان في محاولة لصنع توازن بين النور والظلام.

موكاسونجا، التي فقدت سبعة وعشرين من أفراد عائلتها في مذبحة التوتسي، كتبت رواياتها لتكون شهادة على الوجود الإنساني، ولتضمن أن هؤلاء لن يُمحوا من ذاكرة العالم. تقول: “كتبت هذه الرواية حتى لا أنسى، لأني خشيت أن أستيقظ ذات صباح ولا أستطيع أن أحكي تاريخنا. في تلك اللحظة، سيكون كل هؤلاء الناس قد ماتوا بالفعل.”

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *