منصة قلب إفريقيا الإخبارية

الأعمار بيد الله

عنوان هذه الكلمة عبارة نرددها بيقين تام لأننا نؤمن إيماناً قاطعاً بما ورد في قوله تعالى: ﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ﴾ [آل عمران ١٤٥]. أنا شخصياً نحوت من الموت مرتين و الحمد لله و أسأله تعالى أن يكون ما مُد من عمري زيادة في الخير و ألا أكون ممن يقال فيهم (عمر الشقي بقي).

المرة الأولى كانت في عام 1967 حيث قامت معارضة نظام جعفر نميري بغزو الخرطوم انطلاقاُ من ليبيا القذافي و هو ما عرف في أدبيات ذلك النظام بـ(غزوة المرتزقة). كنت في ذاك العام قد أكملت المرحلة المتوسطة و تم قبولي في مدرسة حنتوب الثانوية. كان لي صديق التحق بالجيش بعد هذه المرحلة و كان قريب العهد بالالتحاق به (مستجداً). و لذلك لم يكن قد تشرب ضبط العسكرية و ربطها، علاوة على حداثة السن و قلة التجربة في الحياة. و لأن الاستعداد في الجيش السوداني في تلك الأيام كان بنسبة مائة في المائة، فقد كان الجنود يحملون أسلحتهم أينما ذهبوا. كان صديقي يأتي إلى المنزل بسلاحه المعروف بـ (جيم تلاتة) أو (جيم ثري). أعتقد أنها البندقية (G3)  و هو سلاح ألماني فتاك يصل مداه القاتل إلى 800 متر، مقابل الكلاشنكوف التي يصل إلى 400 متر. كنا نفك خزنة السلاح و نضعها في أقرب كرسي أو سرير ثم نبدأ في التصويب نحو بعضنا و الضغط على الزناد.. ذات مرة أخرج صديقي الخزنة و وضعها على الكرسي و صوب نحو عيني، قائلاً لي : ” يحيى، …. عينك!” و أنا على بعد أقل من ثلاثة أمتار من فوهة بندقيته. فجأة صرخت: ” الخزنة ناقصة طلقة!”. دهش صديقي. سحب ما يعرف بـ(الترباس). فسقطت على الأرض طلقة كانت مستقرة في الماسورة.. كيف عرفت أن الخزنة ناقصة طلقة؟ لا أدري. إنها كما قال ابن الخطاب “كلمة أجراها الله على لساني” لأنه كتب، سبحانه و تعالى، في الأزل يوما لموتي لم يأت وقتذاك. الذين يعرفون الفرق بين خزنة الجيم 3 و هي مستطيلة و بين خزنة الكلاشنكوف الروسي و هي معقوفة يدركون حكمة الله في ما جرى لي. لأنه في حالة الكلاشنكوف من السهل أن يعرف الشخص الذي يستخدم ذلك السلاح إن كانت (الخزنة ناقصة طلقة) أم لا، لأن الطلقات تكون مصفوفة في صفين، كما هو الحال في السلاح الألماني، و من اليسير معرفة إن كانت أول طلقة في الصف اليمين أو الشمال.. هذا حسب علي. و ربما لدى العسكريين (من جنود و جنجويد!) وسيلة أو وسائل أخرى يعرفونها بها. شاءت إرادة الله أن أعيش حتى يومنا هذا و أن يرحل صديقي قبلي بسنوات. له من الله واسع الرحمة و المغفرة.

المرة الثانية كانت قبل شهور. فكما يعلم كثير من أصدقائي أنني ممن تم إجلاؤهم بواسطة الحكومة الفرنسية بعد اندلاع الحرب الحالية في السودان. و كما ذكرت في كلمة سابقة، فقد تم تجميعنا في منزل في شارع 117 بحي الرياض بالخرطوم ريثما يتم نقلنا إلى قاعدة وادي سيدنا العسكرية و منها بطائرة عسكرية فرنسية إلى جيبوتي ثم إلى فرنسا. كانت هناك نقطة ارتكاز للدعم السريع في شارع عبد الله الطيب بالقرب من تقاطعه مع شارع 117 تبعد حوالي 300 متر من المنزل المذكور. تم ايقافنا و تفتيش السيارة قبل السماح لنا بمواصلة طريقنا. في صبيحة اليوم التالي، و هو يوم سفرنا، تركنا سياراتنا أمام ذلك المنزل على أمل أن تقف الحرب بعد أيام معدودة و ياتي من نكلفه بأخذها. كلفت إبني بذلك و ارسلت له مكان (location) وجودها بواسطة نظام الـ (GPS) المعروف. سولت لي نفسي أن أقوم بتصوير لافتات المحلات التي تحيط بمدخل شارع المنزل (زيادة في التوضيح و كدا!). حملت هاتفي و خرجت. كانت تقف على بعد 100 متر منّي سيارة صالون و كان هناك شخص قد أدخل رأسه ليتكلم مع السائق أو ربما ليرى بداخلها أو ياخذ شيئاً منها.. لم أعر الأمر أدنى اهتمام و قمت بالتقاط الصور.. في اللحظة التي أدخلت فيها الهاتف في جيبي أخرج ذلك الشخص رأسه من السيارة… كان من أفراد الدعم السريع!.. لحظتها أدركت الخطر الذي لم يزل يحدق بي، لأنه إن رآني و أنا أصور كان سيطلق الرصاص علي دون أدنى تردد بحسباني جاسوساً يصور موقع الارتكاز لإرساله إلى الجيش السوداني حتى تقوم طائرات الانتينوف بواجبها.. قلت (لم يزل يحدق)، لأن العلج إن شك في أمري كان سيفتش صور الهاتف و يجد ما قمت بالتقاطه.. الحمد لله (تسللت لواذاً) حتى وصلت المنزل بسلام.

الموقف الأخير هذا لا يبارح خيالي. فقد تم إجلاؤنا إلى مكان آمن – الأمان أمان الله – و هناك منظمة تتولى جميع أمورنا حتى يتم إدراجنا في نظام العمل و التأمين الاجتماعي و الصحي الفرنسي. و هناك ايضاً سخاء الطبيعة و الناس في كل مكان. و هذا ما ضاعف الشعور بنعمة النجاة التي أعقبتها نعم الحياة، لله الحمد و المنة، حمد فانٍ لدائم. و هذا ما جعلني أفكر كثيراً – منذ لحظة وصولي – في تسطير هذه الكلمة. شجعني على الاسراع بتسطيرها اليوم كتاب حصلت عليه قبل سويعات. و هذه قصة أخرى.

بما أنني حتي هذه اللحظة بلا عمل و في انتظار الإدراج في النظام الفرنسي و لأنني أُسْكِنت في مدينة كنت لا أعرف عنها غير اسمها و لأني أحب المشي لمسافات، طويلة فكانت هذه فرصة طيبة (للحوامة على ساق كلب)، على الأقل لاكتشاف المدينة و معرفة مواقع الأماكن التي قد أحتاجها يوماً ما للعمل أو للتسوق او للترفيه أو لغير ذلك. مررت كثيرا بحدائق عامة بها ملاعب أطفال و على جوانبها مقاعد للكبار تجاورها أرفف كتب و مطبوعات أخرى. بدا لي ان السلطات المحلية قد وضعت هذه الكتب لأفراد الأسر الكبار كي يزجوا الوقت في القراءة و هم يراقبون صغارهم يستمتعون بلهوهم. هناك مكان آخر في مركز المدينة أمر به كثيراً به مظلة تغطي طاولة موضوع عليها بعض الكتب دون أن أرى، و لا مرة واحدة، شخصاً يبيع أو يشتري او يجادل في السعر. كنت دائماً ألقي نظرة على ما هو معروض – مدفوفاً بحب الاطلاع و الشغف بالكتب – الذي اطاحت به بكل أسف وسائط التواصل الاجتماعي من (فسبكة) و (وتسبة) و (توترة) – ثم أمضي إلى حيث أريد. لفت نظري مرة كتاب عنوانه (أشهر المحاكمات في التاريخ). سألت شخصاً يقلب الكتب عن كنه ما هو معروض فقال لي : هذه كتب مجانية خذ منها ما تريد. أخذت الكتاب و مضيت في سبيلي. صباح اليوم وجدت كتاباً آخر يمكن ترجمة عنوانه بـ(مذكرات حيوات سبع) – جمع “حياة”. بدأه مؤلفه، جان-فرنسوا دينيو، بعبارة : ” يقولون إن الإنسان يموت مرة واحدة. و هذا خطأ، فقد مت أكثر من مرة”. فقد أجريت له إحدى عشرة عملية جراحية خطرة، إحداها لإزالة ورم في الرئة. و ذكر أن ثلاثاً من كل ألف حالة وفاة أعلنها الأطباء و السلطات الرسمية لم تكن حقيقية.  و لذلك كان من يشعر بدنو أجله من قدماء الصينيين يبتلع زمردة لعلمه أن أقرباءه سيفتحون بطنه بعد وفاته لياخذوها. و بالتالي (سيوقظونه) إن لم يكن قد مات فعلاً.   

حوت صفحات الكتاب القليلة التي قرأتها حتى الآن عدداً من قصص الذين نجو من الموت بأعجوبة حيث كانت فرص النجاة شبه معدومة. منهم الشاب ميشيل الذي كان ضمن جنود فرنسيين صفهم الألمان على حائط و بدأوا في إعدامهم رمياً بالرصاص. تذكر ميشيل في تلك اللحظة أنه إذا همّ إنسان بصفع آخر، سيمد هذا الأخير يده ليحمي خده من الصفع. قرر ميشيل فعل ذلك ليحتمي من رصاص الألمان. فعلها مرتين فأصيب في يده و وقع على ظهره. لكنه لم يمت. ثم مر ضابط صف ألماني ليُجْهِز على من كانت فيهم بقية حياة. لحظتها تذكر ميشيل أن الإنسان عندما يموت يكون مفتوح العينين. فقرر فتح عينيه، رغم الآلام المبرحة، و أن يحاول ألا يرمش قدر الامكان… مر ضابط الصف الألماني به و حسبه ميتاً و أكتفي بأن (أداه شلوت جامد) و مضى.

و منهم الفرنسي الذي خطفه تمساح و فقد الوعي بضربة من ذيل ذلك الحيوان، لكنه لم يمزقه كما يفعل بفريسته في العادة. عندما عاد إليه وعيه وجد نفسه في مكان مظلم و سط أكوام من العظام و تنبعث منه روائح كريهة و خانقة. تذكر أن التمساح لا ياكل فريسته في الحال و لكنه يتركها حتى تتعفن. قرر أن يحفر فتحة ليخرج باستخدام العظام المحيطة به. في اللحظة التي كاد فيها أن يفقد الوعي مرة أخرى و يلقى مصيره المحتوم في جوف التمساح، فتحت كوة صغيرة. وسع الفتحة و نجا.

في الحرب العالمية الأخيرة ضرب الجيش الفرنسي خندقاً في خط سيغفريد، أحد التحصينات الألمانية الرئيسة. أدت الضربة القوية إلى تحريك قفل قبو ظل يقبع فيه ستة رجال منذ أكثر من عام نتيجة انهيار أرضي، حتى فقدوا أبصارهم. و نجا الستة جميعهم.

الكتاب مليئ بمثل هذه القصص. لكن المهم عندي هو تفسير الكاتب لما حدث لهؤلاء و لغيرهم. خاصة للذين سعوا بكل ما وسعهم للنجاة و لم يستسلموا لقدرهم. إنه يرجع ذلك إلى (وجود أمل) أو (الرغبة في إيجاد أمل) و لو بنسبة ضئيلة جداً. و الكاتب لا يعتبر ما وقع لهؤلاء (حدثاً)، بل (فضيلة). و يسميه (المنطق البطولي) أو (العناد البطولي) الذي تسبقه الشجاعة و الاصرار على عدم الاستسلام. مثل البحار الفرنسي الذي سقط في البحر ليلاً و يئس زملاؤه من إنقاذه فقرروا الرجوع و إخطار مسئوليهم في مدينة باستيا لإرسال قوارب و طائرات هيليكوبتر لإنقاذه صباح اليوم التالي. لكنه قرر ان يسبح و يسبح و يستلقي على ظهره إن تعب. فعل ذلك و نجا عندما مر به قارب نقل يربط مدينة نيس بمدينة باستيا. و من سخرية القدر أنه وصل إلى باستيا قبل ان يتحرك فريق إنقاذه المفترض. و كان هو من ساعد أفراد الفريق، و هم لا يعرفونه و هو يجهل مهمتم، على النزول إلى الماء!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *