منصة قلب إفريقيا الإخبارية

قصة من الزمن الجميل

يحكيها عبد الله ود البوش

(هذه قصة خطها يراع الأخ المبدع عبد الله محمد عبد الله البوشني (ود البوش)، بلغته الدارجة الماتعة. ولقيت حظها من الانتشار لدى كثير من السودانيين، إذ لا يمر شهر إلا ويعاد نشرها في مجموعة واتساب أو تتم مشاركتها في الفيسبوك. يسرنا أن نعيد نشرها بعد تحويل بعض فقرات الوصف إلى اللغة الفصحى، مع الإبقاء على الحوارات كما خطها الكاتب. نعرف أننا قد جردناها من كثير من ألقها، لكن لتسهل قراءتها “للناطقين بغيرها!”)

يحيى إبراهيم

 ****************************************************************************************

في نهاية سبعينات القرن الماضي، كنت في الصف الثالث بمدرسة الهجرة الثانوية العامة بالهدى.  طلبت منا ادارة المدرسة احضار رسوم امتحانات الشهادة المؤهلة للدخول للمرحلة الثانوية، والبالغ قدرها خمسة جنيهات، وتم السماح لنا بمهلة اسبوع واحد فقط للذهاب لأهلنا لإحضار الرسوم. كانت المدرسة تبعد عن قريتنا (العتامنة) حوالي ٢٠ كيلو متر، ولم تكن هناك، في ذلك الزمان خطوط مواصلات منتظمة بالمنطقة. كان على الواحد منا أن (يركب الشارع) متوكلاً على الله. ربما وجد شاحنة (لوري)، ان كان محظوظا، أو أن يواصل راجلاً حتى يصل اهله.  عزمت السفر صباح ذلك اليوم والدنيا صيف شهر مارس في حر (يدخل القمرية في الراكوبة). قبل بداية الرحلة، كان لابد من التزود، فقد يطول السفر (كداري). ذهبت لعمي موسى ود العوض، صاحب دكان بالهدى:

_ يا عمي موسى انا ماش اهلي اجيب الرسوم. اديني بلح وبسكويت اقطع بيهم الطريق إمكن ما القى لوري.

 قام من سريره ودخل الدكان. عاد وقد وزاد على طلبي سندوتش طحنية نص عيشة كامل.

– كِدا حسابك كم ؟

– البلح والبسكويت بقرشين. والنص بي طحنية مني انا.

– شكراً ليك. خلاص القرشين وباقي الحساب القديم بجيبهم ليك مع الرسوم.

– الله يهون عليك يا ولدي.

وتحركت، طبعا (كداري) وعليك يا الله. في البداية جاءتني فكرة ظلت ترودني دوماً، لكنى لم أنفذها، و هي أن احسب الخطوات التي أمشيها حتى أصل قريتنا. وبدأت احسب من دكان عمي موسى:  واحد، اتنين، تلاتة، أربعة… واستمر في العد مع قضمة من السندوتش وقضمة من البسكويت،  (وماسك حسابي وماااشي)… عندما أصل إحدى الترع، أرتاح قليلاً واشرب من مائها وأنهض.

سئمت الحساب. جاءتني نزعة دينية فقلت اشغل نفسي بها: سبحان الله والحمد لله والله اكبر… لكن وسوس لي الشيطان أن أتركها موحياً لي أنه من الأحسن أن أغني. بدأت بأغنيه خالي يوسف “بالليل دا ماشي وين يا الكنار”. سئمت منها و بدأت أغني : “قمنا سيرة لي كدباس، يا ناس، اتعبوني خلاس”. عطشت نزلت الترعة شربت ورميت (درابتين تلاتة) في الترعة لأشغل السمك قليلاً.  شربت اخر (هِين) وقمت.

وصلت حلتنا قبيل المغرب وانا في اشد الشوق لامي وأبي واخواني واخواتي، ولدجاجتي (الرقبانية) التي ستكون بلا شك قد أنتجت كتاكيتاً، ولدجاجتي الرقطاء والتي سأجدها حتماً حاضنة بيضها.

سبحان الله كلما أجي حلتنا، يكون أول من يراني من بعيد هي امي، وتقول: “دااااك عبد الله جاء وحات ابوي” وتلقاني في الشارع، لأنه لا توجد اصلا في ذاك الزمن أسوار حول المنازل، او بالأصح نادرة. وإن وجدت تكون بلا أبواب، الا حاج بلقة كان عنده باب زنك. ذات مرة أغضب حبيب الله فقال له:

– يوم القيامة باب الزنكي دا بختوهو في النار ولمن يسخن يتشوك بيهو ويقولوا ليك من اين لك هذا؟

“حق الله.. بق الله”… سلمت علي ناس البيت كلهم و قدموا لي (موية ليمون) بليمونة يابسة، جادت بعد لأي نقطتين. حركوا السكر بعود ناشف. كرعتها وتجشأت طحنية وبسكويتاً. ثم قالت أمي لأختي:

– جُرّي يا بت، اللقمة دي من تحت العنقريب النطعمها للجنا دا جعان. وامشي لناس كلتوم جيبي لي منهم بصلة اتفها فوقها.

– يمة انا شبعان. لبعدين للعشا.

 وتم جر قدح اللقمة إلى مكانه. ثم وجهت كلامي لأبي، رحمه الله:

– هسه انا جيتكم للرسوم.

– الرسوم كم البخات بي الله

– الرسوم خمسة جنيه يابا.

تبسمبل وتعوذ وبراس السبحة طقطق ولوح بها إلى أعلى، وقال:

– اسع ديل نجيبهن من وين في الصيفية دي؟ لا صرف ولا حرف، ولا اخدي ولا تعالي، وعنزنا حقت الشاي بعناها ليك للبس المدرسة، هسه علا الجدادة ام حلقاً مر وللا الحمارة الزرقا الفوقها عيشتنا ونقل مويتنا. اها كيفن الدبارة يا ولدي؟ والله كريم ورحيم.

ومن وقتها ساد التوتر البيت كله. ثم التفت إلى أمي:

– قومي يا الفقيرة شوفي نسوانك ديل كان تلقي دين وانا بشُق الحلة كان القى لي شي. كب النقوم.

وقام الوالد له الرحمة والوالدة ربنا يطول عمرها وشقوا الحلة. رجعوا المغرب بالحسرة. الحلة كلها ما وجدوا بها خمسة جنيه دين الله والرسول لأن الحال (كان من بعضه) الا القليل منهم.
– صباحاتو بيض والله كريم. قالها أبي بكل طمأنينة.

جريت عنقريبي هنااااك في انتظار السهر مع البعوضة والهم الكبير. و” يا المحبوب تدينا هبوب” كما كانت تردد أمي دائماً. وبالفعل هبت نسمة خفيفة اطارت البعوض، وغرقتُ في الحيرة والهم الكبير.

هداني تفكيري أن اكتب خطاباً محكماً وبلغة رصينة وجذابة، وأنا الذي كنت اكتب خطابات استقبال المسؤولين الكبار عند زيارتهم لمنطقتنا. (والليلة الحوبة جات لي روحي دي). نهضت، دخلت البيت أسرجت (لمبة الجاز ام قيطان)، جريت شنطة اخي الأصغر، جلست على الأرض (ويا لغة الضاد الليلة بطلع ميتينك بالغبينة دي). وسطرت الخطاب التالي الذي احفظه حتى الان، ولن أنساه ما حييت:

“بسم الله الرحمن الرحيم

السيد باشمفتش مكتب ٩١ سرحان،

                                        المحترم

السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته

ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت اظنها لا تفرج. اليوم جينا لك انا وابي فإما ان تفرج كربتنا على يدك واما ان تقفل مدى الحياة وتكون سبباً في تحطيم مستقبلي. وأسألك أمام الله بذلك، فأنا مطلوب مني مبلغ خمسة جنيه رسوم امتحانات الشهادة الثانوية العامة، واطلب منك حقاً وليس توسلاً ولا شحدة، فنحن قوم نحمل من عزة النفس ما لا يجعلنا في موقف سؤال الناس. ولكننا نطلب منك سلفة بهذا المبلغ، تخصم من اول صرف لوالدي. فان وافقت بذلك تكون فرجت هذه الكربة، وان لم توافق فالله المستعان.

والسلام عليكم ورحمة الله”

هنا فقط شعرت بالعرق يتصبب مني، فالوقت صيف كما قلت لكم. أطفأت السراج وخرجت. ناديت أبي:   

– يابا… يابا، نمت وللا صاحي؟

–  صاحي. تعال. مالك في شنو؟

– يا ابوي بكرة نمشي المكتب ونطلب من الباشمفتش سلفة علي الصرف الجايي.

– يا ولدي ما في مكتب بدي سلفة قبل الصرف كان شنو داك.

– يابا انا من قبيل بكتب في خطاب وانا عندي امل كبير يسلفنا.

– خلاص يا ولدي صباحاتو بيض.

في الصباح شربنا (الشاي احمر). ألم أقل لكم إننا قد بعنا عنزة الشاي. توكلنا على الله وارتدفنا أنا وأبي على ظهر حمارتنا (الرزقا، عِري ساي برا سرج). ظللت أؤنسه ويؤنسني حتى وصلنا المكتب، الذي يبعد ثمانية كيلومترات تقريبا. لم نجد إلا الخفير في المكتب. قلنا له:

– دايرين الباشمفتش

– مشى البيت قبيل

ومشينا البيت. وكان وقتها سرايا. أخبرنا الخفير الذي صادفناه في الحديقة برغبتنا في مقابلة الباشمفتش.  
بعد زمن ليس بالقصير خرج الينا الباشمفتس وهو يرتدي (جلابية مشلخة) وقال لنا:  

– خير مالكم في شنو؟

ناولته الورقة.. اقل من دقيقة نزلت دمعة على خده، تبعتها تانية، وكانت كبيرة هذه المرة. مسح الدمعتين بطرف الجلابية. وفجأة غمرت الدموع وجهه بالكامل وغلبه أن يسيطر عليها.  أمال راسه نحو الأرض وأشاح بوجهه عنا ورفع جلابيته ليجفف دموعه.  

دخل البيت وجاءنا. قدم لنا مشروباً وطفق يقرا الرسالة والدموع لم تتوقف. أدخل الورقة في جيبه وقال لأبي:

– ادخلو جوة البيت.

– نحن مستعجلين. اقضى لينا غرضنا ونمشي نشيل أهلنا.

– اقعدو اتغدو معاي. بوديكم بالعربية.

– ودي تركب وين يا السيد الباشمفتش؟ [يقصد حمارتنا الزرقا]

– خلاص دقيقة.

دخل ورجع سريعا. أخرج خمسة جنيهات (جديدة لنج) لا انساها، تلك المرسوم عليها وحيد القرن. وقال لي:

– يا عبد الله دي رسوم الامتحان ختها في جيبك.

أخذتها. ولكم ان تتخيلوا قدرها عندي في تلك اللحظة. كدت وابي نطير من الفرح. عندما هممنا بالانصراف، قال لي:

– اقيف! ودي عشرة جنيه هدية النجاح مقدما.

حشرتها في جيبي. وزاد:

– وكمان دي عشرة جنيه تشتري بيها ملابس الثانوي العالي: الردا والقميص والجزمة والشرابات. والخمسة وعشرين جنيه دي هدية مني انا عشان خطابك دا وحا احتفظ بيهو في خزنة المكتب شهادة للتاريخ، عشان اي باشمفتش يجي بعدي يقراهو.

 عدنا لحلتنا بحال غير الذي ذهبنا به. أبي يحمد الله ويسبح. وأنا أغنى: “الليلة وين لي وين يا عيني انا” فرحاً علي شماتة واحد من الجماعة، الذي قال لأبي لما طلب منه أن يسلفه رسم الامتحان: “لمن ما عندكم حق الرسوم القراية ليكم شنو؟

من العشرين جنيه اشترينا نص كيلو لحمة وملوة بصل ورطل زيت ورطل سكر ونص وقية بن وحلاوة اشراقة لفاطنة اختي.

صبيحة اليوم التالي رجعت قاصدا مدرستي وأنا أحمل الجنيهات الخمسة ومعها ثلاثة جنيهات ونصف. رجعت هذه المرة لا كما جئت راجلاً، بل على ظهر لوري، وأنا أغني: “دردق بي يا اللوري دردق بي”، اغنية خالي عبدالجبار الملقب بي “ميتة”.  وقمت بسداد الرسوم والجلوس للامتحان والنجاح الباهر ودخول حنتوب الثانوية الذي كان يذاع على الملأ بالراديو وقتها. وهذه قصة اخرى قصة الحصول على الرادي وحجار البطارية. وزغرودة الوالدة اكاد اسمعها الان في اذني وتنزل معها دمعة

وكانت النتائج من حنتوب ترسل للبريد عن طريق المكتب الزراعي ويستلم نفس الباشمفتش نتيجتي ويفتح المظروف ويضع فيه عشرة جنيهات ومعها ورقة صغيرة:

 “هذه هديتي لك يا عبدالله.

عمك احمد المصطفى”.

 لكن… ولكن… ولكن.. في السنة الثانية وصلت النتيجة دون الجنيهات العشرة وقد رحل “عمي احمد المصطفى” الى الرفيق الأعلى.

 اللهم اسالك باسمك الاعظم وبكل اسم سميت به نفسك ان تجعل الفردوس الأعلى مسكنه وتجعل البركة في ذريته وتجبر بخاطرهم. وللأسف الشديد، رحلت الاسرة مباشرة بعد موته الى ديارهم. ونسبة لعدم وسائل التواصل في ذلك الزمان التليد انقطع كل شيء عدا دعواتي المستمرة له وأسأل كل من قرا هذا المنشَور الدعاء له.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *