منصة قلب إفريقيا الإخبارية

ما بِنْزل إلا بالشاي!

يعتبر الشاي، المستخلص من أوراق شجيرة الكاميليا الصينية (Camellia Sinensis)، من أكثر المشروبات شعبية واستهلاكاً في جميع أنحاء العالم؛ ومنه الشاي الأسود، الذي يأتي في المرتبة الأولي، ثم الشاي الأخضر، والشاي الأبيض. ويحتوي على مضادات الأكسدة، مثل البوليفينول، والأشباه القلوية مثل الكافيين والثيوفيلين والثيوبرومين، والأحماض الأمينية، والكربوهيدرات، والبروتينات، والكلوروفيل، والمركبات العضوية المتطايرة، والفلورايد، والألمنيوم، والمعادن.

تساعد هذه العناصر في تعزيز صحة القلب، وتحسين صحة الجهاز الهضمي، وتقليل ضغط الدم، وتقليل خطر الإصابة بالسكتة الدماغية، وتقليل نسبة السكر في الدم، وتقليل خطر الإصابة بالسرطان، وتحسين وظائف المخ، وتقليل خطر الإصابة بمرض الزهايمر والباركنسون، وحماية الكبد، ومنع انسداد الشرايين، وتقليل خطر الإصابة بأمراض الأوعية الدموية وتعزيز المناعة. لكن الافراط في شرب الشاي يؤدي إلى تقليل امتصاص الحديد، والقلق والتوتر، وحرقة المعدة، وزيادة أعراض ارتجاع المريء، وقلة وزن الطفل المولود والإجهاض أو الولادة المبكرة.

انحصر شرب الشاي في بداياته، في كل المجتمعات تقريبا، على الأسر المالكة والطبقات الأرستقراطية والأدباء، قبل أن ينتشر وسط الطبقات الأخرى. في الصين، حسب كتاب (فن الشاي) لـ(لو جي) وترجمة فؤاد حسن (تم استعراضه على عدة مواقع على الانترنت)، كانوا يهتمون ببيئة تناول الشاي، حيث كانوا يشربونه داخل الغرف وهم يراقبون الطبيعة من نوافذ نظيفة في مكان هادئ، ويجلس المقربون معا يتبادلون أطراف الحديث، ويشربون الشاي بأناقة. ثم انتقلوا إلى مصاطب واستراحات في الحدائق، وأقاموا مواقد الشاي إلى جانب برك الماء الصافية، وهم يتذوقون الشاي في البيئة الطبيعية.

ولشرب الشاي في بعض المجتمعات قواعد يجب الالتزام بها ويعاقب من لا يفعل ذلك. وسنركز على ثلاث مجتمعات: الصين القديمة، موطن الشاي الأول، والمغرب، حيث يسمى الشاي المغربي بالأتاي، والبرامكة في السودان، اعتماداً على كتاب (فن الشاي) المذكور أعلاه، وكتاب (من الشاي إلى الأتاي… العادة والتاريخ) لعبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصامصي (متاح للتحميل على الانترنت)، وعلى ما هو منشور عن البرامكة على الشبكة العنكبوتية.

ورد في الكتاب الأول أربعة شروط يجب توفرها لشرب الشاي: نسيم عليل تحت ضوء القمر، وخيمة تغطيها الزهور، وسرير من قصب ووسادة من حجر، وزهور وأشجار وشطرنج. 

وفي المغرب “تميز الأتاي في دار السلطان بطقوس مميزة، حيث تم إنشاء هيئة تُشرف على إعداد الشاي يرأسها “مول أتاي” أو “صاحب أتاي”. أما إعداد الشاي أمام الضيوف أو الحاضرين فليس من قبيل الترف أو المباهاة، بل قاعدة مهمة إن جانبتها؛ جانبت قواعد الصواب والذوق. ويُسمى مُعدّ الشاي مقيماً، وعادةً ما يتكفل رب الأسرة بهذه المهمة، أما في حالة كان الشاي يُحضّر في مناسبة، فيتم اختيار أكبر الحاضرين عمراً أو الشخص المعروف بتوليه هذه المهمة”.

تقول الباحثة زينب صالح: “لـ(مجالس البرامكة) هيكل إداري يحدد وظيفة كل عضو من أعضاء المجلس، ابتداء بهوية من يشعل النار لغلي الشاي ومن يصبه ومن يوزعه ومن يراقب مخالفات الأعضاء لتقاليد وقوانين المجلس في حال حدوثها ومن يحكم في هذه المخالفات.  ويحق لأي شخص الانضمام إلـى (مجلس البرامكة)، رجلا كان أو امرأة، صغيراً في السن أو كبيراً. فقط عليه الالتزام بقوانين المجلس ومن بينها ارتداء زي موحد: الجلباب الأبيض للرجال و (التوب) للنساء. ويمنع ترك قدر، ولو يسير منه في الكوب، باعتبار ذلك تقليلاً من قيمة الشاي. ومن المخالفات أيضا القيام بأي حركة تشتت انتباه المغنيين أو من يتبارون بالشعر أو دخول المجلس والانصراف منه دون إذن من (ضابط المجلس). ولا يجوز للعضو أن يحمل الكوب وهو ضام أصابعه كلها حول الكأس فهذه تعتبر (خنقا للكوب)، أما في حاله وضعها على الأرض فيعتبر ذلك إهانة.

في حاله المخالفة يعرض المجلس غرامة مالية على العضو المخالف. وإذا لم يلتزم الشخص المخالف بدفع الغرامة يقدم إلى محكمة موسعة تضم كل أعضاء المجلس. وفي حال رفض مجدداً، يصدر حكم بنبذه، ويمنع جميع الأعضاء من أهل المنطقة من التعامل معه. ويسمى حينها بـ(الكمكلي)، وهو الشخص الذي لا يقدر الشاي ولا يجيد شربه ولا يحرص على امتلاك معداته أو الاهتمام بها أو بنظافتها وهو عكس البرمكي. و (الكمكلي)، في عرفهم، شخص ذميم عديم الشهامة والمروءة والكرم. وتبلغ ذروة العقاب إرسال خطاب للزوجة تفيد بأن زوجها أصبح (كمكلياً)، فترفض الزوجة دخوله إلى المنزل إلى أن يتوب ويرجع إلى البرامكة”.  

عمد السلطان الحسن الأول في المغرب إلى تقديم الشاي والسكر والأواني الفضية كهدية لرؤساء وزعماء القبائل الذين يرفضون الخضوع لسلطته أو يترددون في إعلان ولائهم. وسرعان ما آتت هذه السياسة أُكلها، وبسط السلطان نفوذه على هذه القبائل دون حروب.

و جاء في مجلة السودان في رسائل ومدونات العدد (23) الصادر في عام 1940 مقال لـ(هيو بنيامين آربر)، ترجمة د. مبارك مجذوب الشريف، أن الإدارة البريطانية قد انتبهت لظاهرة البرامكة عام 1926م حين اكتشفها مأمور مركز رشاد عند اولاد حميد والقبائل المستقرة القريبة منهم وتم حظرها. ثم قام الناظر محمود ابو سعد بمنعها في ديار هبانية دارفور، وذلك بتغريم كل اعضائها، ووضع ناظر الحمر حداً لها، لكن جهد الناظر راضي كمبال ناظر اولاد حميد لوقفها ضاع سدى.

ذكروا أن أحدهم نزل ضيفاً عند قوم فأكرموا وفادته وقد ذبحوا له عجلاً حنيذاً. فلما فرغ وغسل يديه دعا لهم: “أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة”.. سكت برهة وأضاف: “إلا جبريل!”. سألوه بدهشة: لماذا يمتنع عن النزول إلينا؟”.. قال: ” ما بنزل إلا بالشاي!”

وقالوا: دخل عبد الرحيم ود الضّو، كبير البرامكة على خِيام أولاده، فوجدهم قد أولَموا لضيفٍ غريب. نظر إلى الأواني التي وُضِعت أمام الضيف، فلم يجد بينها صينية شاي أو كُبّاية. صفّق يديه حسرة وقال:

  • أمانة يا الوليدات ما إتّلوّمتو خلاس..!
  • كيف نكون متلوِّمين وأنت شايِفنا ضابحِين؟
  • كيف الضيف يجيكم في دياركم و ما تدّوهو الشّاهي؟
  • الضيف أبى براهو  وقال ما بِيشرب الشّاهي..
  • والله والنبي الكمْكلي لا يُدفن في مقابِر المُسلمين!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *