منصة قلب إفريقيا الإخبارية

  د. ميساء اردول تكتب : المجتمع السوداني بين عمق القيم وسطوة التفاهة الرقمية

كتبت :د. ميساء محمد حسن اردول 

لم يكن المجتمع السوداني يوما بعيدا عن الفضيلة أو غريبا عن الحياء. فهو مجتمع متجذر في قيم الأصالة، محاط بعادات وتقاليد صنعت له حصانة أخلاقية عبر القرون. لكن الواقع الذي نعيشه اليوم يكشف عن تحد جديد، لم تألفه أجيالنا السابقة سطوة الميديا وانزلاقها نحو السفاسف والتوافه.

لقد أصبحنا ـ وللأسف ـ نشهد انصراف الغالبية العظمى إلى متابعة أخبار سطحية ومهاترات شخصية لا تزيد الفرد إلا توترا والمجتمع إلا انقساما. يخرج الناس على الملأ عبر منصات التواصل ليبادلوا الشتائم والاتهامات، وكأن المجاهرة بالمعصية بطولة، أو كأن الإسفاف علامة على الشجاعة.

وما هو أخطر من ذلك أن الجرائم التي عرفناها في القانون الجنائي ـ من سب وقذف، وابتزاز، وتشهير، وخداع، واحتيال ـ قد وجدت في الميديا فضاء واسعا بلا رقيب ولا حسيب. هكذا تحولت المنصات إلى ساحة مفتوحة، تسقط فيها الخصوصية، وتغتال فيها القيم، ويستباح فيها كل شيء بلا استحياء.

إن خطورة هذا الواقع لا تكمن في السلوكيات الفردية وحدها، بل في تطبيع المجتمع معها حين يصبح الشتم مادة للضحك، والتشهير مادة للترفيه، والمعصية زينة للعرض والتفاخر، نكون أمام انحراف قيمي يهدد تماسكنا الاجتماعي ويضعف مناعتنا الأخلاقية.

ولذلك، فإن الحديث عن تعديل قانون جرائم المعلوماتية والميديا لم يعد ترفا تشريعيا، بل صار ضرورة وطنية. فالقانون الحالي ـ رغم ما يحمله من مواد ـ لم يعد مواكبًا للانفجار الرقمي ولا لأنماط الجرائم الجديدة. المطلوب هو إعادة صياغة نصوص القانون بحيث:

1. تُغلظ العقوبات على جرائم التشهير والإساءة الإلكترونية.

2. تستحدث مواد خاصة بالتحريض على الكراهية، ونشر الفاحش من القول والصورة.

3. تفرض مسؤولية قانونية على المنصات التي تسمح بتداول المحتوى الضار دون رقابة.

4. يتاح للمجتمع المدني والإعلام التوعوي المشاركة في نشر ثقافة الاستخدام المسؤول للميديا.

إننا اليوم في مفترق طرق: إما أن نواصل الانحدار نحو هاوية التباهي بالتفاهة، أو أن نعيد بناء خطابنا الإعلامي بما يعكس قيمنا كسودانيين. وما بين الخيارين، يظل القانون هو السور الواقي، لكنه وحده لا يكفي ما لم يستيقظ الضمير الجمعي ويرفض أن تتحول المنصات من وسيلة للتواصل إلى أداة للهدم.

فلنعمل جميعا من أجل أن تظل الميديا ساحة وعي، لا ساحة فضائح؛ منبرا للمعرفة، لامسرحا” للمعصية  .

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *