المعز محمد الحسن
لو أجرينا مقارنة بين أقاليم السودان المختلفة من حيث مستوى المعيشة والخدمات سنجد أن المنطقة الوحيدة التي تتمتع بمستوى معيشة مرتفع نسبياً هي منطقة الوسط الواقعة داخل مثلث الخرطوم كوستي سنار. هذا المثلث هو الأوفر حظاً من ناحية خدمات الكهرباء والمياه والتعليم والصحة، فيما عدا بعض الاستثناءات خصوصاً في منطقة النيل الأبيض. وهناك ملاحظة مهمة، هذه المنطقة يسكنها خليط من كل المكونات القبلية السودانية. فيما عدا ذلك فإن كل الأقاليم المحيطة بالوسط تتشارك في المعاناة من سوء الخدمات وانعدام الطرق ونقص المدارس. وفي كثير من مناطق شمال السودان كما في غربه قد يضطر الأطفال للسير لمسافات طويلة أو على ظهور الدواب من أجل الوصول إلى مدارسهم وكذلك المرضى من أجل الوصول للمراكز العلاجية. وقد رأيت من البؤس في شمال السودان في مناطق لا تبعد سوى بضع عشرات من الكيلومترات من الخرطوم ما لم أره في قرى معزولة في أقاصي دارفور.
ومع ذلك فهناك قناعة شائعة بهيمنة العنصر الشمالي، ثقافياً وسياسياً، على بقية السودان، خصوصاً وأن معظم الأنظمة التي حكمت السودان بعد الاستقلال كان قادتها في الغالب من أهل القبائل الشمالية. لكن ذلك ليس سوى ظاهرة سطحية تخفي صورة أكثر تعقيداً وعمقاً. فبجانب عبود ونميري والبشير والبرهان، وكلهم استولوا على السلطة بقوة السلاح، هناك أيضاً علماء وكتاب وأدباء وشعراء وفنانون. وقد لاحظت أن قبيلة الجعليين وحدها قد رفدت السودان بعدد مقدر من العلماء الأدباء العظام في تاريخ السودان مثل البروفيسور عبد الله الطيب، والتيجاني يوسف بشير ومحمد المهدي المجذوب وأعتقد الدكتور النذير دفع الله. وإن توسعنا في القبائل الشمالية ومنطقة أمدرمان سنجد الطيب صالح وصلاح أحمد إبراهيم وقائمة طويلة من المفكرين والمبدعين. هؤلاء تفوقوا بالعلم ولم يتفوقوا بقوة السلاح ولا بالمال فمعظمهم ينتمي لأسر متواضعة. ومع ذلك فحال التعليم في شمال السودان ليس بأفضل منه في بقية مناطق السودان. فهل سكان شمال السودان أكثر ذكاءً من بقية سكانه؟ الإجابة بالطبع “لا”. إذاً كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة؟ ما الذي يجعل إقليماً معيناً أكثر قدرة من بقية الأقاليم على إنتاج العلماء والمفكرين والقادة؟ وماذا يميز سكان أقاليم شمال السودان؟ إن الأمر في حقيقته ظاهرة اجتماعية أكثر منها سياسية، تمتد لآلاف السنوات، ويمكن أن تعزى لعدة عوامل ثقافية وتاريخية وجغرافية.
لو قدر لنا أن نعود لست أو سبع ألف سنة للوراء وأجرينا مقارنة بين حياة سكان أوروبا وسكان منطقة من مناطق القبائل النيلية في أفريقيا فلا أعتقد أننا سنجد فارقاً كبيراً بين الإثنين. سنجد في الحالتين أناساً يسكنون في أكواخ ربما صنعت من القش في أفريقيا ومن الحجارة في أوروبا. يعيشون على الصيد وجمع الثمار. يتنقلون على ظهور الثيران. يعالجون أمراضهم بالتوسل لأرواح الأسلاف عبر طقوس مبهمة. يتشاجرون ويحاربون بعضهم بأسلحة بدائية كالرماح والسهام…
وعلى بعد بضعة آلاف من السنوات من ذلك الوقت، في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، كان هناك شاب بريطاني يقترب من الأربعين من عمره يعيش وسط قبيلة النوير في جنوب السودان ويدرس مجتمعهم ونظم حياتهم. مجيء هذا الرجل لتلك المناطق سبقته تغيرات كثيرة حدثت في أوروبا منذ ذلك العهد البدائي السحيق فأصبح الناس فيها يعيشون في مدن كبيرة ويتنقلون بالسيارات عبر طرق مرصوفة ويسافرون بالطائرات وابتكروا أسلحة فتاكة مكنتهم من غزو الشعوب الأخرى في مناطق كثيرة من العالم. بينما هنا في تلك البقاع من أفريقيا لم تتغير الحياة كثيراً فأكواخ القش كما هي والناس يتنقلون بالثيران ويعيشون على جمع الثمار وصيد الحيوانات كما كان يفعل أسلافهم منذ آلاف السنين.
هذا البريطاني اسمه إدوارد إيفان إيفانز بريتشارد (Edward Evan Evans-Pritchard) وهو أنثروبولوجي شهير قام بدراسات رائدة عن مجتمعات القبائل الأفريقية. في نهاية الثلاثينات عاش هذا الرجل وسط قبيلة النوير لأكثر من عام ظل خلاله يأكل وينام ويتنقل معهم ويراقب نمط حياتهم وعاداتهم ونظمهم الاجتماعية. وكان ثمرة هذه التجربة الفريدة كتاب بعنوان “النوير، وصف لأساليب العيش والمؤسسات السياسية لشعب نيلي” (1) وهو كتاب نادر في موضوعه وممتع غاية الإمتاع حتى للقارئ العام إذ يتيح له فرص الغوص في عالم النوير الساحر والملئ بالتفاصيل المدهشة والمثيرة. لقي هذا الكتاب اهتماماً كبيرا في الأوساط العلمية ويعتبر حتى يومنا هذا من الدراسات الكلاسيكية في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية.
من ضمن الملاحظات التي أدهشت إدوارد إيفان أن الفرد من النوير كان في فصل الأمطار يزرع مساحة محدودة من الذرة لا تتعدى محيط الكوخ الذي يعيش فيه، في الوقت الذي يمكنه فيه أن يزرع مساحات أكبر بكثير فالأراضي متوفرة والمياه أيضاً. ويقول إدوارد أنه كثيراً ما سأل أصدقاءه النوير عن تفسير ذلك دون أن يحصل منهم على إجابة مقنعة. وبتعمقه أكثر في دراسة نمط حياة هؤلاء الناس أدرك أن السبب الأساسي في ذلك هو أنهم يعيشون في بيئة لا تتطلب أن يبذل الفرد جهداً كبيراً من أجل الحصول على غذائه. فهم يعتمدون على موارد وفيرة من الصيد والثمار وألبان الأبقار التي يربونها وفي فصل الفيضان توفر لهم الأنهار كميات مقدرة من الأسماك. إذن هم لا يرون ضرورة لبذل الجهد والوقت في زراعة مساحات كبيرة تفوق ما يلزم لإنتاج مما يحتاجونه في حياتهم اليومية من الذرة.
هذه الملاحظة مهمة جداً لأنها تبين دور البيئة كمؤثر رئيس في تطور المجتمعات وتقدمها وعلى ضوئها يمكن أن نفهم مثلاً لماذا كانت الزراعة في مصر قبل آلاف السنين أكثر تطوراً منها في كثير من مناطق السودان في الوقت الحاضر. المصريون القدماء ابتكروا أنظمة متقدمة للري عبر أحواض وقنوات تتغذى من مياه الفيضان للاستفادة منها بعد انحسار النيل، واستخدموا آليات في الري كالشادوف، كما استحدثوا نظاماً للتنبؤ بالفيضانات يتكون من أنظمة لقياس مستويات المياه على طول مجرى النيل. وكان الفلاحون المصريون يزرعون القمح والشعير والبصل والثوم وغيرها من المحاصيل والخضروات. إنها البيئة. مصر في معظمها أراض صحراوية باستثناء الشريط النيلي فحتم ذلك على المصريين القدماء الاعتماد على الزراعة من اجل تأمين غذائهم والاستفادة القصوى من مياه النيل. وهكذا كان ذلك دافعاً لتطوير فنون الزراعة ونتج عنه خبرات زراعية تراكمت عبر آلاف السنين. وإذا عدنا لمجتمع النوير سنجد أن الأمر معكوس فهم يعيشون في بيئة غنية بالحياة، حيث المياه متوفرة لدرجة المعاناة بسببها في مواسم الأمطار والفيضانات. وكانت زراعتهم على قلتها عرضة للدمار بسبب تلك الفيضانات أو بواسطة قطعان الحيوانات البرية. ومقارنة حال الزراعة في مصر والسودان في وقتنا الحاضر تكشف عن مفارقة طريفة فنحن لدينا وفرة في الأراضي الزراعية الخصبة والموارد المائية أضعاف ما لدى مصر ولكن المصريون يتفوقون علينا بمراحل بعيدة في خبرات وفنون الزراعة. وقبل عدة سنوات قرأت خبراً أن في إحدى مناطق السودان الريفية تم إدخال استخدام الحمير لأول مرة في الحرث.
لكن البيئة ليست سوى عامل من عوامل كثيرة مؤثرة في تطور المجتمعات كما يقول الكاتب الأمريكي وعالم الأحياء جارد دياموند في كتابه “أسلحة وجراثيم وفولاذ: مصائر المجتمعات البشرية (2) وهو من أشهر الدراسات في تحليل تطور المجتمعات البشرية من منظور بيئي وجغرافي. في هذا الكتاب الذي صدر في 1997 يحاول هذا العالم تتبع مسار التطور البشري منذ بداية الزراعة أي قبل أكثر من 10 ألف عام إلى عصرنا الحاضر ليجيب على سؤال محوري: لماذا هيمنت الأمم الاوروآسيوية على بقية الشعوب في أفريقيا وأمريكا وأستراليا ولم يحدث العكس؟
يؤكد دياموند على حقيقة أنه لا توجد فوارق جينية بين الشعوب ولا تفوق عرقي لعنصر على آخر، ولكن هناك مجموعة كبيرة من العوامل منها البيئة المواتية للزراعة وتوفر الحيوانات الداجنة والتفاوت في نوعية الأمراض المنتشرة في كل منطقة من المناطق ومقاومة السكان لتلك الأمراض وعوامل أخرى يدرجها الكاتب في معادلة من حدين: الضرورات والفرص. فالضرورات تفرض البحث عن الحلول وإيجاد الحلول يتطلب استغلال الفرص المتاحة. وما بين طرفي هذه المعادلة يتولد الأبداع البشري ثم يتراكم.
إلا أن دياموند يركز بصفة خاصة على عامل مهم وحاسم في نشوء وتطور أي حضارة من الحضارات: إنه التواصل مع الحضارات الأخرى والتبادل المعرفي. وذلك يفسر لماذا تركزت الحضارات العظيمة حول حوض البحر الأبيض المتوسط. فالبحر المتوسط وفر وسيلة اتصال بين هذه الحضارات وانتقال للمعارف والعلوم بين الشعوب التي تسكن على سواحله. لذلك كان اختراع الكتابة من قبل المصريين والحروف الأبجدية من قبل الفينيقيين وظهرت الفلسفة في اليونان والفنون العسكرية والمعمار في روما وحملات الكشوفات البحرية في إسبانيا والبرتغال. وبالمقابل كانت هناك شعوب أخرى لم تتطور كثيراً عبر آلاف السنين لأنها كانت حبيسة للعزلة التي فرضتها عليها ظروفها الجغرافية. فقبائل أفريقيا الاستوائية عاشت في مجموعات منعزلة في بيئة وعرة من الغابات والأنهار حدت كثيراً من حركتها. وشكلت الصحراء الكبرى حاجزاً حرمها من التواصل والتفاعل مع الحضارات الكبرى في البحر المتوسط.
وبالعودة للسودان، وعلى ضوء ذلك، سنجد أن منطقة شمال السودان كانت هي الإقليم الأكثر احتكاكاً بحضارات العالم منذ آلاف السنين بفضل اتصاله الجغرافي بمصر. ويعود ذلك لعصور سحيقة، لحضارة كرمة أقدم الحضارات السودانية. هذه المملكة التي كانت تقع عاصمتها على الضفة الشرقية من النيل شمال مدينة دنقلا الحالية، يعود تاريخها إلى ما بين 2500 إلى 3000 سنة قبل الميلاد. كان سكانها على اتصال وثيق بالممالك المصرية وقد ازدهرت بفضل التجارة مع مصر ومع مناطق السودان الأخرى وتميزت بفن معماري متقدم وفريد ومختلف عن الطراز الفرعوني. إلا أن ذلك الازدهار كان سببا في تحريك الأطماع المصرية تجاهها، فقام المصريون بغزوها في القرن الخامس عشر قبل الميلاد لتبدأ حقبة جديدة من الـتأثير الثقافي والمعماري المصري في السودان الذي استمر لعدة قرون. وعلى إرث ذلك التأثير قامت مملكة نبتا الشهيرة والتي نمت وقويت شوكتها واحتل ملوكها مصر في القرن السابع وحكموها لما يقارب التسعين عاماً قاموا خلالها ببعث التراث الفرعوني الذي كان قد تأثر بالاضطرابات والانقسامات التي كانت تعاني منها الممالك المصرية، وقاموا بتشييد الكثير من المعابد والصروح المعمارية. ولم يكتف ملوك نبتا بحكم مصر بل حاولوا التمدد شرقاً وقاموا بمناوشة الآشوريين في حدود فلسطين. شكل ذلك مصدر قلق للأشوريين الذين قاموا بحشد جيوشهم وطردوا ملوك النوبة من مصر وأجبروهم على التقهقر نحو عاصمتهم نبتا. ورغم ذلك لم يتوقف ملوك نبتا أو كوش عن مناوشة جنوب مصر واستمروا في ذلك حتى سقوط مصر تحت سطوة الإمبراطورية الرومانية. قرر الرومان وضع حد لهجمات ملوك نبتا على جنوب مصر فقاموا بغزوهم وإجبارهم على التراجع جنوباً مرة أخرى ليؤسسوا في القرن الرابع قبل الميلاد عاصمتهم الجديدة في مروي في منطقة البجراوية الواقعة شمال مدينة شندي الحالية. تلك كانت بداية نهاية مملكة نبتا وميلاد مملكة مروي آخر ممالك الكوشيين. وعن ذلك التاريخ يقول عالم الآثار الفرنسي كلود ري “مثلما ينظر الأوروبيون إلى اليونان القديمة رمزيا كأب وأم لهم، يمكن للأفارقة أن ينظروا إلى كوش على أنها سلفهم الأكبر”.
وصلت تلك الممالك درجة عالية من التنظيم الحربي والتجاري والإداري والتطور الصناعي بمقاييس ذلك الزمن. ولم يكن ذلك فقط بفضل القادة والملوك العظام الذين حكموها، وإنما بفضل مجتمع قوي وثقافة قائمة على منظومة قوية من القيم المجتمعية الجادة خصوصاً فيما يتعلق باحترام الفرد للدولة وتفانيه في خدمة أهدافها وتقديسه لقيم العمل والعلم. والمتأمل لثقافة سكان شمال السودان في الوقت الحاضر وأنماط حياتهم سوف يلاحظ أنها تتميز بالصرامة والجدية والاجتهاد في العمل والاهتمام بتحصيل العلم. وينسحب ذلك حتى على المجموعات التي قدمت للسودان في عصور لاحقة. وقد لخص الطيب صالح ذلك في وصف طريف ساخر إذ يقول: “نحن قوم نخاف الفرح. إذا ضحكنا نستغفر. نخشى البهجة ونتمسك بالقتامة في كل شيء… يا لرتابتنا”.
ومن المهم التذكير بأنه، ونتيجة لكل ما ذكرت، لم تكن السياسة البريطانية الخاصة بمسألة التعليم في زمن الاستعمار عادلة تجاه أقاليم السودان المختلفة. وفي هذا الخصوص يقول الخبير التعليمي الدكتور ياسر حسن حسين: “عندما جاء البريطانيون للسودان، كان لديهم تحيز واضح تجاه المناطق النيلية فيما يتعلق بمسألة التعليم إذ كانوا يعتقدون أن سكان هذه المناطق هم أكثر استعداداً لقبول التعليم الحديث. وقد كان ذلك في حد ذاته عاملاً مهماً في تعميق الهوة بين تلك المناطق وبقية مناطق السودان. ولما تم تعيين ونجيت باشا حاكماً عاماً على السودان خلفا لكتشنر في 1899، اهتم بأمر التعليم وعين جى جىى ماثيو سكرتيراً للتعليم والصحة. وجي جي ماثيو هذا هو الشخص الذي أرسى دعائم التعليم الحديث النظامي في السودان، وعزز الجهود التي بدأها كتشنر في هذا المجال. لكن كان لديه موقف عنصريجعله يركز على القبائل النيلية أكثر من غيرها. بل كان يصف بعض قبائل السودان بانها غير قابلة للتعلم. وهكذا كان المجهود المبذول من البريطانيين في التعليم الحديث اقل تأثيراً كلما ابتعدنا عن وسط السودان، إلى أن نصل لجنوب السودان حيث كان الصرف على التعليم شحيحاً وتركت مسألة التعليم برمتها تقريبا للمبشرين. وفيما بعد أقر البريطانيون أنفسهم بفشل المبشرين في تطوير التعليم في جنوب السودان.
ختاماً هذا العرض ليس الغرض منه إثبات حق تاريخي لفئة معينة، فالتاريخ أياً كانت عظمته لا يعطي حقاً لأي إنسان على الآخرين. إنما الغرض منه التأكيد على أن قضية التهميش، إن وجدت، فهي قضية أكثر عمقاً وتعقيداً من أن تحل بقوة السلاح والتمرد. إنها قضية تحتاج لأجيال من المعالجة الشاملة التي تبدأ بالتعليم وترميم النظم “القِيمَية” للمجتمعات، بالإضافة لإتاحة الفرصة للأجيال الصغيرة للانفتاح على العالم لينطلق طموحها لآفاق أرحب تتخطى حدود المجتمع الصغير.
وقد أثبتت التجارب أن الحروب التي قامت بدافع التهميش كانت في حد ذاتها عائقاً إضافياً لتنمية وتطور المجتمعات التي أرادت الدفاع عنها… والعبرة بالنتائج.
(1) The Nuer, a Description of the Modes Livelihood and Political Institutions of a Nilotic People
(2) Guns, Germs, and Steel by Jared Diamond